في ربيع عام 1851، تحوّل قلب باريس إلى مسرحٍ مفتوح للعلم. لم يكن الحدث محاضرة أكاديمية ولا مناظرة فلسفية، بل تجربة فيزيائية مذهلة أقامها العالِم الفرنسي ليون فوكو تحت قبة البانثيون، ليبرهن أمام العامة – لا في الكتب ولا عبر النجوم – أن الأرض تدور بالفعل حول محورها.
كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها ثورية في أثرها. فقد علّق فوكو كرة نحاسية تزن 28 كيلوغراماً على خيط فولاذي طوله 67 متراً، وتركت لتتأرجح في صمت. ومع مرور الوقت، بدا واضحاً أن مسارها ينحرف تدريجياً. لم يكن البندول هو الذي يغير اتجاهه، بل الأرض نفسها التي تدور من تحته.
كانت هذه أول مرة يرى فيها الناس بأعينهم برهاناً ملموساً على ما كان غاليليو قد جهر به قبل قرنين، ودفع ثمنه اضطهاداً ومحاكمة. لقد جعل فوكو السماء تهبط إلى الأرض، والفيزياء تتحول إلى مشهد بصري شعبي يتجاوز جدران المختبرات.
لم يقتصر البريق على قبة البانثيون وحدها. صحيفة L’Illustration المصورة، أوسع الصحف الفرنسية انتشاراً آنذاك، نقلت الحدث إلى عشرات الآلاف من القرّاء. وصفت التجربة بأنها "دعوة لرؤية الأرض تدور"، وقدّمتها كعرس جماهيري للعلم، حضره الفلاسفة والوجهاء ورجال الدين والعمّال البسطاء معاً. كانت الديمقراطية العلمية في أبهى صورها: لا تذاكر، لا حواجز طبقية، بل فضول إنساني مشترك أمام سرّ كوني.
لم يكن السياق السياسي والديني بعيداً عن المشهد. ففي ظل صراع محتدم بين التيارات الجمهورية المناهضة للكنيسة والسلطة الكاثوليكية، بدا بندول فوكو وكأنه انتصار رمزي للعقلانية والعلم على حساب dogmes الإيمان. حتى الرسوم المنشورة بالغت في إظهار تمثال "الخلود" خلف البندول، وكأن التجربة تمنح للعلم نفسه خلوداً لا يزول.
لم تتوقف أصداء التجربة عند فرنسا. فبعد أيام قليلة، ظهر بندول مماثل في لندن، ثم في نيويورك وروما وريو دي جانيرو. وفي المعرض العالمي بباريس سنة 1855، صار بندول فوكو أيقونة علمية تتناقلها الأجيال.
لقد تحولت التجربة إلى لحظة فارقة في تاريخ الثقافة العلمية: لحظة أثبتت أن العلم لا يعيش فقط في معادلات، بل في صور وتجارب تلمس المخيلة الشعبية. وما زال اسم فوكو حتى اليوم يقترن بأشهر تجربة فيزياء جماهيرية في التاريخ، تجربة جعلت الأرض تدور في وعي الناس لا في كتب الفلك فقط.
0 التعليقات:
إرسال تعليق