الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 04، 2025

الواقع المعزَّز كأفق أخلاقي في الصحافة الاستقصائية: ترجمة عبده حقي


أكتب هذه الكلمات وأنا أستعيد دهشتي الأولى حين شاهدت تجربة للواقع المعزَّز استخدمها فريق صحفي لإعادة بناء مسرح جريمة وقعت في مدينة مكسيكية صغيرة. لم يكن المشهد مجرد صور ثلاثية الأبعاد، بل كان مساحة معرفية جعلتني أشعر أنني داخل غرفة التحقيق نفسها، أرى آثار الرصاص على الجدار وأسمع صدى الصمت الثقيل. وقتها تساءلت بعمق: هل يمكن لهذه التقنية أن تتحول إلى أداة أخلاقية تعيد للصحافة الاستقصائية معناها الأصلي بوصفها مرآة للعدالة، لا مجرد وسيلة لإثارة الانفعالات؟

الصحافة الاستقصائية، كما خبرتها شخصياً، لطالما وُصفت بأنها السير على حافة السيف: خطوة واحدة خاطئة قد تجعل الصحفي يتحول من شاهد للحقائق إلى منتهك لخصوصيات البشر. هنا يكمن دور الواقع المعزَّز. فهو ليس مجرد أداة بصرية، بل منظومة معرفية تعيد تشكيل العلاقة بين الحقيقة والقارئ.

لقد تأملت في استخدام الغارديان للتقنيات البصرية في تحقيقاتها عن الإبادة في رواندا، وكيف وظفت بروبوبليكا منصات تفاعلية لتعقّب شبكات الفساد المالي. في تلك الأمثلة، بدا الواقع المعزَّز أكثر من مجرد وسيلة إيضاح؛ كان أشبه بجسر يسمح للجمهور أن يعبر إلى قلب الوقائع. لكن، هل يكفي الجسر ليضمن العبور الآمن؟ ألا يحتمل أن يتحول إلى مصيدة بصرية إذا غابت الاعتبارات الأخلاقية؟

من النص إلى التجربة

لقد حذّرت الباحثة ن. كاثرين هايلز في كتابها "الأدب الإلكتروني" من أن الوسائط التكنولوجية ليست محايدة. إنها تغيّر إدراكنا وتعيد توزيع السلطة بين النص والقارئ. هذا التحذير جعلني أنظر بحذر إلى كل محاولة لإدخال تقنيات الواقع المعزَّز في العمل الاستقصائي. فالمشهد الذي يعرض للقارئ زنزانة مظلمة قد يحفّزه على التعاطف مع المعتقل، لكنه قد يحوّل المأساة إلى مشهد "عرضي" يخضع لقوانين الاستهلاك البصري، لا لقوانين العدالة. وهنا يظهر التحدي الأكبر: كيف أجعل من التجربة التفاعلية أداة لتمكين الضحية، لا وسيلة لتشييئها؟

الأمر يشبه السير على جسر زجاجي: يمكنني أن أرى الهاوية من تحتي بوضوح، لكن عليّ أن أزن خطواتي حتى لا أسقط في فخ الاستعراض. هذا المجاز ظلّ يتردّد في ذهني وأنا أقرأ كتاب بيل كوفاتش وتوم روزنستيل  The Elements of Journalism، حيث يؤكدان أن جوهر الصحافة هو الوفاء للمواطن أولاً. وأنا أضيف: الوفاء للإنسانية قبل الوفاء لأي تقنية.

بين الشفافية والتضليل:

قد يظن البعض أن الواقع المعزَّز يضمن الشفافية المطلقة، لأنه يعرض "المكان كما هو". لكن تجربتي مع الأدوات الرقمية علّمتني أن الصورة قادرة على التضليل بقدر ما هي قادرة على التوضيح. الواقع المعزَّز يمكن أن يخلق وهماً بالدقة، بينما هو في الحقيقة بناءٌ انتقائي للواقع. من يحدد زاوية الكاميرا؟ من يختار ما يُعرض وما يُخفى؟ أليست هذه بدورها أسئلة أخلاقية تستحق الوقوف عندها؟

لقد أشار المفكر الفرنسي بيير بورديو في كتابه "حول التلفاز" Sur la télévision إلى أن وسائل الإعلام الحديثة كثيراً ما تزيّف الواقع باسم "الموضوعية". وإذا أسقطتُ هذا النقد على الصحافة المعزَّزة، فإن الخطر يكمن في أن ينخدع القارئ بتجربة غامرة فيظن أنه يملك الحقيقة كاملة، بينما هو يعيش داخل نسخة مُنتقاة بعناية.

التجربة الحسية كأداة تربوية

رغم هذه المخاطر، أجد نفسي مؤمناً بأن الواقع المعزَّز يحمل إمكانات تربوية هائلة. فهو قادر على جعل القارئ شاهداً على مأساة بيئية أو فساد سياسي أو انتهاك حقوقي بطريقة لا توفرها المقالات التقليدية. تخيل مثلاً أن تفتح نافذة تفاعلية على خريطة تظهر مستويات التلوث في نهر محلي، أو أن ترى عبر هاتفك المسار الحقيقي للأموال المهربة من بلدك إلى مصارف أوروبية. هذه التجربة لا تكتفي بإبلاغك المعلومة، بل تجعلك شريكاً في عملية الوعي.

وهذا ما أكدته دراسات Harvard Kennedy School حول الإعلام التفاعلي ودوره في تعزيز الشفافية والمساءلة. فالصحافة هنا تتحول من مجرد ناقل للخبر إلى مدرسة في المواطنة، تربّي الجمهور على أن يكون جزءاً من عملية الرقابة الاجتماعية.

نحو ميثاق أخلاقي جديد

كلما تأملت هذه الأبعاد، شعرت أن الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى ميثاق أخلاقي جديد خاص بالوسائط المعزَّزة. ميثاق لا يكتفي بالقواعد التقليدية كالتأكد من المصادر أو التوازن في العرض، بل يتجاوزها إلى أسئلة أعمق:

هل يُسمح بإعادة بناء مشاهد التعذيب أو الاغتصاب في تجارب معزَّزة؟ كيف نضمن ألا تُستخدم هذه التقنية لإعادة صدمة الضحايا؟ هل يجب إشراك المجتمع المدني في تحديد ضوابط الاستخدام؟

لقد اقترح " مركز أخلاقيات الصحافة"  Center for Journalism Ethics بجامعة ويسكونسن بعض المبادئ التي يمكن أن تُستأنس بها، مثل أولوية عدم الإيذاء

 (do no harm) وضرورة الشفافية في شرح آليات بناء التجربة التفاعلية. وأنا أرى أن هذه المبادئ تشكل أساساً صالحاً لبناء أخلاقيات جديدة تناسب هذا العصر الرقمي.

التجربة المغربية والعربية

يخطر ببالي السؤال التالي : كيف يمكن للصحافة العربية، والمغربية خصوصاً، أن تستفيد من هذا الأفق؟ نحن نعيش في فضاء إعلامي يعاني من الرقابة ومن تضييق على الوصول إلى المعلومة. لكن في المقابل، لدينا جمهور شاب يتفاعل يومياً مع تقنيات الألعاب والوسائط الغامرة. تخيلوا لو تم توظيف هذه الأدوات في تحقيقات حول قضايا الفساد المحلي أو التغير المناخي أو الهجرة غير الشرعية. سيكون لذلك وقع أكبر من عشرات المقالات المكتوبة. لكن شرط ذلك أن نحمل هذه الأدوات بوعي أخلاقي صارم، حتى لا تتحول إلى مجرد ألعاب بصرية.

الخاتمة: بين السؤال والوصية

في النهاية، أجد نفسي أمام مفارقة أساسية: الواقع المعزَّز يمنحني قدرة غير مسبوقة على تقريب الحقيقة، لكنه في الوقت ذاته يلزمني بمسؤولية مضاعفة. وإذا كانت كل صحافة استقصائية تبدأ بسؤال "ماذا يُخفى؟"، فإن الصحافة المعزَّزة تجعلني أطرح سؤالاً أكثر تعقيداً: "كيف أُظهر الحقيقة دون أن أجرحها؟". هنا بالذات يكمن البعد الأخلاقي الذي يجب أن يوجّه كل صحفي في زمن الوسائط الغامرة. وكأن هذه التقنية تقول لنا: الحقيقة ليست فقط ما نعرضه، بل كيف نعرضه ولأي غاية.

المراجع

Bill Kovach & Tom Rosenstiel, The Elements of Journalism, Three Rivers Press, 2007.

N. Katherine Hayles, Electronic Literature: New Horizons for the Literary, University of Notre Dame Press, 2008.

Pierre Bourdieu, Sur la télévision, Éditions Liber-Raisons d’Agir, 1996.

Harvard Kennedy School, Shorenstein Center on Media, Politics and Public Policy, Reports on Interactive Journalism, 2019.

Center for Journalism Ethics, University of Wisconsin-Madison, Guidelines on Emerging Media Ethics, 2021.

Investigative examples: The Guardian coverage of Rwanda genocide archives; ProPublica’s interactive reports on financial corruption (2018–2022).

0 التعليقات: