لم يعد الشعر في زمننا المعاصر مقتصراً على الورق أو الإلقاء الصوتي التقليدي، بل أصبح يخترق فضاءات جديدة بفضل الثورة الرقمية. من بين هذه التجارب المبتكرة يبرز ما يُعرف بـ الشعر المتحرك، وهو ممارسة إبداعية تسعى إلى مزج النص الشعري بالرسوم المتحركة الرقمية، بحيث يتحول النص إلى تجربة بصرية وسمعية متعددة الأبعاد.
الشعر المتحرك (Animated Poetry) هو شكل من أشكال الأدب الرقمي حيث يتم توظيف تقنيات التصميم الحركي والرسوم المتحركة لإضفاء بعد ديناميكي على النص الشعري. الكلمات لا تُقرأ فقط، بل تُرى وهي تتحرك، تتشكل، تتلاشى، أو تتحول إلى صور وأشكال رمزية.
قد تظهر الكلمة تدريجياً
وكأنها تنبثق من الصمت.
قد ينقلب الحرف إلى
صورة أو رمز بصري.
وقد يتفاعل البيت الشعري
مع مؤثرات صوتية أو موسيقية تعزز من أثره الانفعالي.
بهذا المعنى، يتحول
الشعر إلى نص متعدد الوسائط (Multimodal Text) يزاوج بين اللغة والفن البصري والتقنية.
تعود جذور هذا الفن
إلى تجارب الشعر البصري في القرن العشرين، حيث كان الشعراء مثل إي إي كامينغز وغومبرتو
إيكو يبحثون في إمكانيات الشكل الطباعي. ومع ظهور الحاسوب، ظهرت أعمال الشعر الرقمي
التي استثمرت إمكانات النصوص المولدة آلياً أو النصوص التفاعلية.
لكن الشعر المتحرك
يختلف بكونه يركز على الحركة والزمانية، أي أنه لا يكتفي بترتيب الكلمات في الصفحة،
بل يجعلها تتطور أمام عين القارئ/المشاهد عبر الزمن.
الاستخدامات العملية
يمكن توظيف الشعر المتحرك
في:
المعارض الفنية الرقمية
كجزء من تجارب فنية تركيبية (Installations).
التعليم الأدبي عبر
تقريب النصوص الشعرية إلى الأجيال الشابة التي تتفاعل مع الوسائط البصرية.
الإعلام والترويج الثقافي
عبر إنتاج مقاطع فيديو قصيرة تحمل حمولة شعرية.
مراجعة نقدية
رغم الطابع التجديدي
للشعر المتحرك، إلا أن النقاد ينقسمون حول قيمته:
الإيجابيات:
يفتح آفاقاً جديدة
أمام الشعر، ويجذب جمهوراً لم يكن يقرأ النصوص الأدبية المكتوبة.
يتيح إمكانيات جمالية
متعددة، حيث تتكامل الكلمة مع الصورة والصوت.
يعكس روح العصر الرقمي،
ويجعل الشعر جزءاً من الثقافة البصرية الراهنة.
التحفظات:
قد يؤدي الإفراط في
المؤثرات البصرية إلى طمس جوهر النص الشعري نفسه.
يطرح سؤالاً حول مركزية
"النص": هل يبقى هو الأصل، أم يصبح مجرد مكوّن ضمن فضاء رقمي أوسع؟
قد تتحول بعض الأعمال
إلى استعراض تقني أكثر من كونها تجربة أدبية أصيلة.
النقد الأدبي الرقمي،
كما تطرحه الباحثة الأمريكية كاثرين هايلز (Katherine Hayles) في كتابها Electronic Literature، يشدد على ضرورة أن تبقى التقنية أداة تعزز المعنى
لا أن تحجب النص. ومن هنا فإن نجاح الشعر المتحرك مرهون بقدرته على الحفاظ على توازن
بين الشعرية والتقنية.
يمثل الشعر المتحرك
محاولة جريئة لإعادة تعريف الشعر في زمن الصورة المتحركة. فهو يجمع بين جماليات اللغة
وإمكانات التكنولوجيا ليخلق نصاً هجينيّاً يفتح أمام القارئ/المشاهد أفقاً جديداً من
التلقي. ومع ذلك، يبقى النقاش مفتوحاً: هل نحن أمام تطوير حقيقي للقصيدة، أم أمام فن
بصري جديد يستعير من الشعر عناصره؟
في كل الأحوال، فإن
الشعر المتحرك يؤكد أن النص الأدبي ما زال قادراً على التحول والتجدد، ليواكب إيقاعات
العصر الرقمي دون أن يفقد جوهره الإنساني.
0 التعليقات:
إرسال تعليق