الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 02، 2025

عبور الصحافة الرقمية في زمن انقطاعات الإنترنت الجماعية: عبده حقي


لا شيء يكشف هشاشة البنية التحتية للإعلام الرقمي أكثر من اللحظة التي يغيب فيها الإنترنت فجأة عن ملايين المستخدمين. في عالم أصبح فيه الخبر لا يُنقل إلا عبر الخوادم والشبكات والمنصات، يتحول الانقطاع الجماعي إلى زلزال يضرب أساسيات الممارسة الصحفية. فكيف يمكن للصحفيين أن يستمروا في أداء دورهم حينما يُقطع شريانهم الرئيسي عن مصادر الأخبار وعن جمهورهم في آن واحد؟

منذ أحداث الربيع العربي مرورًا بالاحتجاجات في ميانمار وكازاخستان وحتى الانقطاعات الواسعة التي شهدتها أوكرانيا أثناء الحرب، أظهرت السلطات السياسية إدراكها لسلطة المعلومة وسرعة تداولها عبر المنصات. قطع الإنترنت لم يعد مجرد إجراء تقني، بل أصبح أداة للسيطرة على السردية العامة. تقرير منظمة "Access Now" لعام 2023 أشار إلى أكثر من 180 حالة إغلاق متعمد للإنترنت في أكثر من 30 دولة، وغالبًا ما تزامنت هذه الانقطاعات مع لحظات حرجة سياسيًا واجتماعيًا.

في مثل هذه الظروف، تجد الصحافة الرقمية نفسها أمام معضلة مزدوجة: كيف توصل الأخبار في ظل غياب القنوات الرقمية؟ وكيف تحافظ على صدقيتها حينما تغيب عنها إمكانية التحقق السريع من المعطيات؟ هنا، تعود الصحافة إلى تقاليدها الأقدم، أي الاعتماد على البث الإذاعي والتغطية الميدانية والشبكات البشرية. تجربة صحيفة

"Myanmar Now" أثناء قطع الإنترنت عام 2021 مثال بارز؛ إذ لجأت إلى توزيع الأخبار عبر إذاعات قصيرة الموجة وملصقات ورقية، ما يعيد للأذهان صورة الصحافة في القرن العشرين حيث الكلمة المطبوعة كانت الوسيلة الوحيدة لمقاومة الصمت المفروض.

لكن التحدي اليوم أكثر تعقيدًا، لأن الجمهور أصبح مدمجًا بشكل شبه كامل في البيئة الرقمية. القراء يتوقعون تحديثات آنية، وصحافة التحقيق تستند إلى وثائق مسرّبة عبر البريد الإلكتروني، والتحقق من الأخبار يعتمد على أرشفة الفيديوهات في تويتر ويوتيوب. ومع انقطاع الإنترنت، يصبح الصحفي أمام مشهد مُشوّه يشبه غرفة مليئة بالمرايا المكسورة: الحقائق مبعثرة، والوقت يضغط، والجمهور ينتظر.

ولعل أبرز ما يميز هذه المرحلة هو بروز أدوات بديلة، بعضها تقني مثل الأقمار الصناعية المحمولة التي وفرتها شركات مثل "Starlink" في أوكرانيا، وبعضها اجتماعي يعتمد على شبكات الثقة بين المواطنين لنقل الأخبار شفهيًا أو عبر وسائط بديلة. هنا يظهر التوتر بين المركزية التقنية للشركات الكبرى (غوغل، ميتا، إيلون ماسك) وبين الحاجة المحلية إلى استقلالية إعلامية قادرة على الصمود في وجه الانقطاعات. إنها مفارقة تضع الصحافة الرقمية بين المطرقة والسندان: مطرقة التبعية للتكنولوجيا الأجنبية، وسندان الرقابة الداخلية.

اللافت أن انقطاعات الإنترنت لا تؤثر فقط على تدفق الأخبار، بل تعيد أيضًا تشكيل علاقة الصحافة بجمهورها. ففي لحظة الصمت الرقمي، يعود المواطن إلى محيطه الضيق باحثًا عن المعلومة الموثوقة من جاره أو من إذاعة محلية صغيرة. هنا تفقد الصحافة الرقمية جزءًا من سحرها المرتبط بالانتشار الفوري والعابر للحدود، لكنها في المقابل تستعيد بعدها الإنساني الأقرب إلى الشارع والناس. إنها لحظة "تطهيرية" بمعنى ما، شبيهة بالانطفاء المؤقت للمسرح قبل إعادة رفع الستار.

إن عبور الصحافة الرقمية في زمن انقطاعات الإنترنت ليس مجرد تحدٍّ تقني، بل هو أيضًا اختبار فلسفي لمفهوم حرية التعبير في عصر الشبكات. فالمعلومة لم تعد مجرد نص، بل أصبحت بنية تحتية تشبه الماء والكهرباء. كما كتب الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان: "الوسيلة هي الرسالة"، واليوم يمكن القول إن "البنية التحتية هي الحرية". بدونها تصبح الصحافة مجرد صدى بعيد لأحداث لا يمكن التحقق منها ولا إيصالها إلى جمهورها الطبيعي.

في النهاية، لا بد من التفكير في استراتيجيات هجينة لمواجهة هذا الواقع. فالتكنولوجيا يمكن أن تقدم حلولًا احتياطية عبر تقنيات الشبكات اللامركزية، لكن الخبرة التاريخية تعلمنا أن الصحفي الذي يحمل دفتره وقلمه في الميدان سيظل دائمًا الحارس الأخير للحقيقة. وهنا تكمن قيمة الصحافة، لا في المنصات ولا في الخوارزميات، بل في الإصرار على رواية القصة مهما كان الحصار محكمًا.

0 التعليقات: