الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، أكتوبر 07، 2025

رواية وسائل التواصل الاجتماعي: عبده حقي


رواية وسائل التواصل الاجتماعي. إنها الرواية التي لم تعد تُكتب فقط بالحبر أو تُقرأ في عزلةٍ أنيقة، بل تُصاغ في الفضاء الرقمي، بين الإعجابات والتعليقات، وتُتابع فصولها في الزمن الحقيقي كما لو كانت بثًّا سرديًا مباشرًا.

لقد غيّرت الشبكات الاجتماعية منطق الكتابة نفسها؛ فبينما كانت الرواية الكلاسيكية تُبنى ببطء على الورق، تتسارع اليوم لتواكب زمن النشر الفوري. هنا، يصبح السرد تفاعليًا، والمؤلف مجرد عقدة ضمن شبكة سردية يتقاسمها آلاف المستخدمين. إن فكرة “الكاتب الإله” التي سادت في القرن التاسع عشر، كما وصفها رولان بارت في مقاله “موت المؤلف” (1968)، تتهاوى أمام هذه الكتابة الجماعية الجديدة التي تمنح القارئ سلطة المشاركة والتعديل وإعادة التفسير.

لا تُقرأ رواية وسائل التواصل الاجتماعي بالمعنى التقليدي، بل تُتابَع. يكتب المؤلف مقاطع قصيرة — أشبه بتغريدات أو منشورات — يتخللها وسائط بصرية وصوتية، فيتفاعل المتابعون بالتعليقات أو الرسوم أو حتى بفصول موازية. وهكذا يتحول النص إلى كائنٍ حيٍّ، يتنفس بتفاعلات الجمهور ويتطور عبر الزمن. هذا الشكل من السرد يجد جذوره في تجارب مثل مشروع “Instagram Stories Fiction” الذي درسته الكاتبة الأمريكية أوليفيا سوليفان في كتابها Net Art and the Digital Imagination (2020)، حيث تتقاطع الرواية مع فنون الأداء الرقمي والميمات والذكاء الاصطناعي.

لكن هذه الثورة السردية ليست دون ثمن. فبينما تُحرّر وسائل التواصل الكاتب من قيود النشر الورقي، فإنها تربطه بخوارزمياتٍ تفرض إيقاعها السريع، وتُغريه بالسطحية والانتشار بدل العمق والبطء. تصبح “القابلية للمشاركة” معيارًا جماليًا جديدًا يحلّ محلّ الجودة الأدبية. وهنا يظهر ما تسميه شوشانا زوبوف في عصر رأسمالية المراقبة (2019) بـ“اقتصاد الانتباه”، حيث يتحول الإبداع إلى سلعة تُقاس بمدى التفاعل الرقمي.

من الناحية السوسيولوجية، تخلق رواية التواصل الاجتماعي مجتمعًا سرديًا جديدًا، يُعيد تعريف العلاقة بين الأدب والديمقراطية. فكل مستخدم هو مؤلفٌ محتمل، وكل قصة يمكن أن تتكاثر وتتحور بفعل المشاركة الجماعية. هذا الشكل يشبه ما وصفه بنديكت أندرسون في الجماعات المتخيَّلة (1983) عند حديثه عن الأمة الحديثة؛ غير أن “الأمة السردية” الجديدة لا تُبنى على اللغة أو الجغرافيا، بل على الخوارزميات التي توصل القصص إلى بعضها البعض.

تبدو هذه الروايات كأنها تحاكي الوعي الجمعي لشبكاتنا الرقمية: متقطعة، غير خطية، مفعمة بالصور والرموز والميمات، تشبه أحلامًا مشتركة أكثر مما تشبه سردًا منسجمًا. إنها روايات بلا نهاية، لأن الجمهور لا يتوقف عن الكتابة فيها. روايات تتحول مع الزمن إلى “أرشيف حيّ” للانفعالات الجماعية، كما يظهر في بعض المشاريع العربية مثل “#حكايتنا_على_إنستغرام” أو مبادرات الأدب التفاعلي التي انطلقت من لبنان ومصر والمغرب، حيث يلتقي النص بالشهادة الشخصية، والسيرة الذاتية بالذاكرة الجمعية.

وفي الأفق، تتقاطع هذه الظاهرة مع الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يشارك هو الآخر في إنتاج السرد. فالروايات الآتية قد تُكتب بالتعاون بين الإنسان والخوارزمية، فيتحول الحساب الأدبي إلى “مختبر نصي” دائم، يتفاعل فيه الذكاء الصناعي مع العاطفة البشرية في إنتاج معنى جديد للكتابة.

بهذا المعنى، تمثل رواية وسائل التواصل الاجتماعي مختبرًا ثقافيًا لما بعد الأدب الورقي، وتجسّد انتقالنا من عصر المؤلف الواحد إلى عصر السرد الجماعي. إنها ليست مجرد شكلٍ تقني جديد، بل تحوّلٌ فلسفي في معنى الرواية ذاتها، إذ لم تعد تُكتب لتُقرأ فقط، بل لتُعاش، وتُشارك، وتُعاد كتابتها بلا توقف.

وكما يقول أمبرتو إيكو في الأثر المفتوح (1962): “العمل العظيم هو الذي لا يُغلق على تأويل واحد.”

وفي عصر التواصل، كل رواية أصبحت أثرًا مفتوحًا بلا نهاية، يكتبها العالم معًا في الوقت الحقيقي.

0 التعليقات: