يبدو أن المشهد الثقافي والفني العالمي اليوم يعيش حالة من التفاعل العميق بين المحلي والعالمي، بين الأصالة والتجديد، في زمنٍ يتقاطع فيه الإبداع مع التحولات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية. من المغرب إلى إفريقيا والعالم العربي، وصولاً إلى العواصم الثقافية الكبرى، تتشكل خارطة جديدة للثقافة العالمية تُعيد ترتيب القيم والمعاني في زمن ما بعد العولمة.
في المغرب، تتألق مدينة طنجة هذه الأيام باحتضانها الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم، الذي تحوّل إلى موعد سنوي للسينمائيين والنقاد والجمهور المغربي المتعطش للسينما الوطنية. افتُتحت فعاليات المهرجان في قصر الفنون والثقافة وسط أجواء احتفالية تعكس عودة الزخم إلى المشهد السينمائي المغربي بعد سنوات من التحديات. ويُعدّ هذا المهرجان فضاءً للقاء الأجيال السينمائية، من الرواد إلى المبدعين الشباب، كما يشكّل مختبراً للتفكير في مستقبل الصناعة السينمائية المحلية في ظل التحول الرقمي المتسارع. وفي السياق نفسه، شهدت الرباط مؤتمراً إقليمياً حول "حقوق الفنانين الأفارقة"، ركّز على مسألة "حق التتبع" أو droit de suite، وهو مبدأ قانوني يمنح الفنانين حقاً مالياً في عائدات أعمالهم بعد بيعها، ما يعكس وعياً متزايداً بقيمة الإبداع وكرامة المبدع في المغرب وإفريقيا على السواء.
أما في العالم العربي، فقد برز حدث فني لافت يتمثّل في إعلان الفنان الكوميدي اللبناني جون أشقر عن تقديم أول عرض ستاند أب كوميدي باللغة العربية على مسرح الأولمبيا في باريس، أحد أعرق الفضاءات الثقافية الأوروبية. هذا الحدث ليس مجرد عرض فني، بل خطوة رمزية تُعبّر عن انتقال الثقافة العربية إلى قلب المشهد الغربي بثقة وجرأة. إنه جسر ثقافي جديد بين اللغة العربية والجمهور العالمي، يفتح المجال أمام أشكال جديدة من التعبير الإبداعي العربي خارج الحدود التقليدية، ويؤكد أن الفن يمكن أن يكون أداةً للتقارب والتفاعل الحضاري لا للانغلاق.
وفي إفريقيا، تشهد العاصمة البريطانية لندن معرضاً مميزاً في متحف "تيت مودرن" مخصصاً للحداثة النيجيرية، حيث يعرض أعمالاً لرموز الفن الإفريقي الحديث مثل بن أوكري وياينكا شونيباري، اللذين أسهما في تجديد المشهد الفني البريطاني من منظور إفريقي. المعرض لا يكتفي بعرض اللوحات والمنحوتات، بل يفتح نقاشاً واسعاً حول استعادة التراث الإفريقي المنهوب، وخاصة "برونزات بنين" الشهيرة التي ما زالت محور جدل عالمي حول مسألة الإرجاع والملكية الثقافية. بهذا المعنى، لا يعود الفن مجرد فعل جمالي، بل يصبح عملاً سياسياً وأخلاقياً يستعيد للثقافة الإفريقية مكانتها في التاريخ الإنساني.
وعلى المستوى العالمي، حمل هذا الأسبوع خبراً بارزاً تمثل في انتخاب المصري خالد العناني مديراً عاماً جديداً لمنظمة اليونسكو خلفاً للمديرة السابقة، بعد دعم عربي وإفريقي واسع. هذا الحدث التاريخي يؤكد صعود الحضور العربي والإفريقي في مؤسسات الثقافة العالمية، ويمنح المنطقة فرصة لإعادة صياغة سياسات التعليم والتراث في العالم من منظور أكثر شمولية وعدلاً. تحديات العناني ليست سهلة، إذ تواجه اليونسكو أزمة مالية عميقة بعد انسحاب بعض الدول المانحة، لكنه يحمل رؤية طموحة لتعزيز التحول الرقمي في التعليم والثقافة، وربط التراث المادي بالتحولات التكنولوجية الحديثة.
من طنجة إلى باريس، ومن لندن إلى القاهرة، يتجلى أن الثقافة أصبحت اليوم أكثر من مجرد نشاط فني؛ إنها لغة للحوار الإنساني في عالم متغير. المهرجانات السينمائية، والعروض الكوميدية العربية في أوروبا، والمعارض الإفريقية في المتاحف العالمية، وانتخاب قيادات عربية لمؤسسات دولية، كلها إشارات تدل على أن الجنوب الثقافي لم يعد تابعاً، بل أصبح شريكاً فاعلاً في صياغة المشهد الجمالي والفكري الكوني.
إنها لحظة انتقالية تؤكد أن الإبداع لا وطن له، وأن الثقافة في القرن الحادي والعشرين هي جسر للحرية والتفاهم والكرامة الإنسانية. من المغرب الذي يحتفي بسينماه، إلى إفريقيا التي تستعيد فنونها، إلى العرب الذين يرفعون أصواتهم في قلب أوروبا، يمكن القول إن العالم يعيش نهضة ثقافية صامتة، لكنها عميقة الجذور... نهضة تؤمن بأن الفن هو آخر ما يوحّد البشر حين تنقسم السياسة وتضيع الحقيقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق