في العصر الرقمي الذي يتسارع فيه إيقاع الكتابة والنشر، تشهد الرواية تحوّلاً جذرياً في مفهوم التأليف ذاته. فبعد قرونٍ من تمجيد “المؤلف الفرد” بوصفه الخالق الأوحد للنص، تبرز اليوم تجربة الرواية التشاركية كأحد أكثر أشكال السرد جرأة في إعادة تعريف حدود الإبداع الأدبي. لم يعد النص حكراً على قلم واحد، بل صار نتاجاً لتفاعل متعدّد الأصوات، حيث يذوب الكاتب في جماعة من المساهمين الذين يشاركونه كتابة الحكاية، تحريرها، بل وحتى توجيه مصير أبطالها.
إنّ فكرة الرواية التي تُكتب جماعياً ليست وليدة اليوم، فقد سبقت إليها تجارب أدبية مثل حركة “السرياليين” في فرنسا أو “مجموعة أوليبو” (Oulipo) التي أسّسها رايمون كونو وجورج بيريك، حين سعوا إلى تحرير الإبداع من سطوة الفردية. غير أنّ ما أتاحه العصر الرقمي يفوق تلك التجارب بكثير. فبفضل المنصّات الإلكترونية مثل Wattpad وPenana وReddit Writing Communities، صار بإمكان أي كاتب أو قارئ من أقصى الأرض أن يشارك في بناء العالم الروائي، يضيف مشهداً أو يحذف آخر، يغيّر مصيراً أو يقترح حواراً. وكما يقول الباحث الأمريكي هنري جنكينز في كتابه Convergence Culture (2006): “إنّ الجمهور لم يعد متلقّياً سلبياً، بل أصبح شريكاً في إنتاج المعنى.”
هذا التحوّل في آلية الكتابة يرتبط بتحوّل أعمق في بنية الثقافة المعاصرة، حيث تتقاطع الفردانية الرقمية مع الذكاء الجماعي كما صاغه بيير ليفي في كتابه L’intelligence collective (1997). فالرواية التشاركية تُعيد توزيع السلطة الرمزية بين الكاتب والقارئ؛ لم يعد أحدهما أعلى من الآخر، بل أصبحا شريكين في لعبة المعنى، يكمّل أحدهما الآخر كما يتبادل العازفون الأدوار في أوركسترا واحدة. إنّها رواية تنتمي إلى “الزمن الشبكي”، حيث تتساوى الأصوات، وتتجاور اللهجات، وتتشابك الخبرات.
وقد أثبتت بعض التجارب الحديثة قدرة هذا النموذج على إنتاج أعمال ذات عمق فني وجمالي، كما حدث في مشروع “A Million Penguins” الذي أطلقته جامعة De Montfort البريطانية بالتعاون مع دار Penguin سنة 2007، حين تمّت دعوة آلاف الكتّاب عبر الإنترنت للمشاركة في كتابة رواية جماعية. ورغم الفوضى التي رافقت التجربة، فقد كشفت عن إمكانية تحويل الفضاء الرقمي إلى مختبر سردي مفتوح، تتقاطع فيه الحكايات مثل خيوط نسيج واحد. يشبّه الناقد الفرنسي فيليب بوتو هذه الظاهرة بـ“الرواية الموزايكية”، التي لا يمكن فهم جمالها إلا من خلال تعدّد أجزائها وتنوّعها.
لكنّ هذا الشكل الجديد من الكتابة يطرح أسئلة فلسفية وإبداعية معقدة:
من يملك النص في النهاية؟ هل المؤلف هو من كتب الفقرة الأولى أم من عدّلها؟ وهل يحقّ للقارئ أن يتحوّل إلى مؤلف؟ هذه الأسئلة تعيدنا إلى أطروحة رولان بارت في مقاله الشهير موت المؤلف (1968)، حيث أعلن أن المعنى يولد من “القراءة” لا من “الكتابة”. في ضوء ذلك، يمكن القول إن الرواية التشاركية هي التجسيد العملي لموت المؤلف وبعثه في جسدٍ جماعيٍّ جديد.
إنّ ما يميّز الرواية التشاركية ليس فقط تعدّد الكتّاب، بل تعدّد الوعي. فكل مساهم يدخل بعالمه الثقافي، لغته، ورؤيته الخاصة للعالم، لتتشكل رواية هجينة تجمع بين الأسلوب الأكاديمي والحس الشعبي، بين الواقعية والخيال العلمي، بين السرد الغربي والشرقي. ومن هنا، فهي تعبّر عن عولمة الخيال الأدبي، إذ تتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية، لتصنع نصاً إنسانياً كونيّاً يشبه، في تماهيه وتناقضه، الوعي الرقمي المعاصر نفسه.
غير أنّ هذه الحرية الإبداعية ليست بلا حدود. فالتجارب التشاركية تواجه تحديات تتعلّق بالتنسيق الفني، والحفاظ على وحدة الحبكة، وتجنّب التناقضات السردية. كما أنّ الإشكال القانوني حول “حقوق الملكية الفكرية” يظلّ معلقاً بين القوانين التقليدية التي تعترف بالمؤلف الفرد، والمنصّات التي تشجّع التأليف الجماعي. وهنا يبرز دور التقنيات الحديثة مثل البلوكشين الأدبي الذي بدأ يُستخدم لتوثيق المساهمات النصية وحفظها زمنياً باسم أصحابها، ما يفتح أفقاً جديداً لتوزيع “حقوق الإبداع” بعدالة.
لقد باتت الرواية التشاركية مختبراً حقيقياً للخيال الجمعي، ومجالاً لتجريب أشكال سردية جديدة مثل “الرواية التفاعلية” و“الرواية الميتافيرسية”، حيث يشارك القارئ في صياغة النهاية أو توجيه الأحداث. وهكذا تتحول الكتابة إلى حوار مستمر بين الإنسان والنص، بين الفرد والجماعة، بين الورق والبرمجة.
وكأنّ الرواية تقول اليوم للعالم: “لم أعد ابنة قلم واحد، بل ابنة ذاكرة جماعية تمتدّ من الشاشة إلى القلب.”
وبذلك، فإنّ الرواية التشاركية لا تُمثّل مجرد نزوة رقمية، بل تحوّلاً إبستمولوجياً في مفهوم الأدب ذاته. فهي تنقلنا من مرحلة “النص المغلق” إلى “النص المفتوح”، ومن فكرة المؤلف المهيمن إلى “المجتمع المؤلف”. إنها، في جوهرها، رواية هذا العصر: رواية كتبتها يد الإنسانية كلها.
مراجع مقترحة
-
هنري جنكينز، Convergence Culture: Where Old and New Media Collide، نيويورك، 2006.
-
بيير ليفي، L’intelligence collective، باريس، 1997.
-
رولان بارت، La mort de l’auteur، 1968.
-
مشروع A Million Penguins، جامعة De Montfort بالتعاون مع دار Penguin، 2007.
-
فيليب بوتو، مقالات نقدية حول “الرواية الموزايكية”، مجلة Critique Littéraire Française، 2019







0 التعليقات:
إرسال تعليق