يَشهَدُ الْمَشهَدُ الثَّقافِيُّ وَالْفَنِّيُّ وَالْإِعْلامِيُّ فِي هٰذِهِ الْأَيَّامِ حَراكًا مُتَسارِعًا يَعكِسُ تَقَاطُعَ الْإِبْداعِ مَعَ التِّقْنِيَّةِ وَتَحَوُّلاتِ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ، مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعالَمِ كُلِّهِ. فِي الْمَمْلَكَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ تَتَجاوَرُ نَبْضاتُ الْمَقاهي وَأَهازيجُ الْمَهْرَجاناتِ مَعَ نُقاشاتٍ حادَّةٍ حَوْلَ مُسْتَقْبَلِ الْإِعْلامِ وَحُقوقِ الْمُبْدِعينَ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَتَشَكَّلُ عَلَى مُسْتَوى الْعالَمِ خَريطَةٌ جَدِيدَةٌ لِلْأَدَبِ الرَّقْمِيِّ وَصِناعَةِ الْمُحْتَوَى.
فِي الْمَغْرِبِ يَسْتَقْطِبُ مَهْرَجانُ "الْقَهْوَةِ وَالشَّايِ" الْمُنَظَّمُ فِي مَدِينَةِ مَرَّاكُشَ عُشّاقَ التُّراثِ الذَّوْقِيِّ وَالْفُنُونِ الشَّعْبِيَّةِ، حَيْثُ يَتَحوَّلُ الْمَشْرُوبُ الْيَوْمِيُّ الْبَسِيطُ إِلَى مَسْرَحٍ لِحِكاياتٍ عَنْ الذَّاكِرَةِ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوِيَّةِ الْمَدينَةِ، وَتُرافِقُهُ عُرُوضٌ فَنِّيَّةٌ وَمَعَارِضُ لِفُرَشاةِ التَّشْكِيلِ وَعُدْسَةِ التَّصْوِيرِ تُؤَكِّدُ أَنَّ الثَّقافَةَ الْمَغْرِبِيَّةَ ما زالَتْ قادِرَةً عَلَى اِبْتِكارِ صِيَغٍ حَدِيثَةٍ لِتَقْدِيمِ تُراثِها. وَفِي الْمَدِينَةِ الْعَريقَةِ مِكْناسَ يَتَوَاصَلُ حِضُورُ الْمَهْرَجاناتِ الصُّوفِيَّةِ وَالطُّرُقيَّةِ، حَيْثُ تُمْزِجُ الْأَنْغامُ الْعِيساوِيَّةُ بَيْنَ الْبُعْدِ الرُّوحِيِّ وَالْإِيقاعِ الْعَصْرِيِّ، فَتُحَوِّلُ الْفَنَّ الدِّينِيَّ إِلَى جِسْرٍ لِلتَّواصُلِ بَيْنَ الْأَجْيالِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَجالِيَتِهِ فِي الْعالَمِ.
وَعَلَى مُسْتَوَى الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ يَتَصَدَّرُ مَهْرَجانُ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ لِلْفِيلْمِ فِي جِدَّةَ الْمَشْهَدَ السِّينِمائِيَّ الرَّاهِنَ، حَيْثُ تَتَجاوَرُ أَفْلامٌ شابَّةٌ جَرِيئَةٌ مَعَ أَفْلامٍ مُوَثَّقَةٍ دَعَمَتْها مَؤَسَّساتٌ ثَقافِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ، مِمَّا يُرَسِّخُ مَكانَةَ السِّينِما الْعَرَبِيَّةِ كَمِرْآةٍ لِلتَّحَوُّلاتِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ. وَفِي الرِّياضِ تَسْتَمِرُّ فَعالِيَّاتُ "مَوْسِمِ الرِّياضِ" فِي تَقْدِيمِ أُسْبوعٍ مُخْتَصٍّ بِالثَّقافَةِ الْفِلِيبِّينِيَّةِ وَآخَرَ بِالثَّقافَةِ الْأَفْريقِيَّةِ، مِمَّا يُحَوِّلُ الْمَدِينَةَ إِلَى فَضاءٍ عَبْرَ قَوْمِيٍّ يَخْتَلِطُ فِيهِ الرَّقْصُ وَالْمُوسيقى وَالْمَأْثوراتُ الشَّعْبِيَّةُ فِي مُشْهَدٍ يُجَرِّبُ فِيهِ الْخَلِيجُ أَنْوَاعًا جَدِيدَةً مِنَ الدِّبْلُوماسِيَّةِ النَّاعِمَةِ.
أَمَّا فِي إِفْرِيقِيَا فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الثَّقافِيَّةَ تَتَّخِذُ شَكْلًا آخَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الِاحْتِفاءِ بِالتُّراثِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ. فَفِي دَارِ السَّلامِ تَفْتَتِحُ تَنْزانِيا مَعْرِضًا فَنِّيًّا مُلْهَمًا بِالْقِطاراتِ وَالْحَدِيدِ الْقِطاعِيِّ، يَسْتَخْدِمُ اللَّوْحَةَ لِسَرْدِ حِكاياتِ السَّفَرِ وَالْهَجْرَةِ وَتَحَوُّلِ الْمُدُنِ. وَفِي أَبِيدْجانَ تَسْتَعِدُّ مَعَارِضُ الصُّورِ الْفُوتوغْرافِيَّةِ لِدَوْرَةٍ جَدِيدَةٍ تُرَكِّزُ عَلَى صُوَرِ الْمُدُنِ الْأَفْريقِيَّةِ وَحَياةِ الشَّبابِ فِيهَا. وَفِي لاغوسَ يُعادُ تَأْكِيدُ مَكانَةِ الْمَدِينَةِ كَعاصِمَةٍ مُوسِيقِيَّةٍ لِلْقَارَّةِ مَعَ اِسْتِعْدادِها لِاِحْتِضانِ جَوائِزِ الْمُوسِيقَى الْأَفْريقِيَّةِ الَّتِي تُرْسُمُ عَلَى خَشَبَةِ مَسارِحِها مَلامِحَ الْمُسْتَقْبَلِ الصَّوْتِيِّ لِإِفْرِيقِيَا.
وَبِالْاِنْتِقالِ إِلَى الْمَشْهَدِ الْعالَمِيِّ، تَسْتَمِرُّ الْمَدُنُ الْكُبْرَى فِي أُورُوبَّا وَآسْيا وَالْأَمْريكَتَيْنِ فِي اِسْتِخْدامِ الْفُنُونِ كَأَدَاةٍ لِطَرْحِ أَسْئِلَةٍ حَوْلَ مَعْنَى الْمَدِينَةِ وَمَعْنَى الْعَيْشِ فِي عَصْرِ الْأَزَماتِ وَالتِّقْنِيَّاتِ الْعالِيَةِ، فَتَظْهَرُ مَهْرَجاناتُ الثَّقافَةِ الْحَضَرِيَّةِ فِي الْفَضاءاتِ الْمَفْتوحَةِ وَتُعادُ قِراءَةُ التُّراثِ الْمَتْحَفِيِّ بِنَظْرَةٍ جَدِيدَةٍ تَمْزِجُ بَيْنَ التَّأْرِيخِ وَالْهُوِيَّةِ الرَّقْمِيَّةِ.
فِي مَجالِ الصَّحافَةِ وَالْإِعْلامِ وَالتِّقْنِيَّاتِ الرَّقْمِيَّةِ، يَبْدُو أَنَّ السُّؤالَ الْكَبِيرَ الْيَوْمَ هُوَ: كَيْفَ يُمْكِنُ التَّعَامُلُ مَعَ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ كَشَرِيكٍ لا مَجَرَّدِ أَدَاةٍ؟ فَفِي أَبُو ظَبِي تَسْتَعِدُّ الْأَوْساطُ الْإِعْلامِيَّةُ وَشَرِكاتُ الْمُحْتَوَى لِفَعَّالِيَّةٍ ضَخْمَةٍ تَجْمَعُ عَشَراتِ الْآلافِ مِنَ الْمُخَطِّطينَ وَالْمُبْتَكِرينَ وَرُوَّادِ الْأَعْمالِ لِمُناقَشَةِ مُسْتَقْبَلِ صِناعَةِ الْمُحْتَوَى وَتَطْبِيقاتِ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ فِي الْإِعْلامِ، فِيمَا تُوَاكِبُ صُحُفٌ وَمَراكِزُ بَحْثِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ هٰذِهِ النَّقْلَةَ بِنَشْرِ تَقاريرَ تَسْتَفْهِمُ: "الذَّكاءُ الْاِصْطِناعِيُّ هُنا، فَما الْعَمَلُ بَعْدَ الْآنِ؟" فَتُثِيرُ قَضايَا الْفُرَصِ الْاِقْتِصادِيَّةِ الْجَدِيدَةِ وَالْمَخاطِرِ الْأَخْلاقِيَّةِ وَتَرَكُّزِ السُّلْطَةِ فِي أَيْدِي الْمِنَصّاتِ الْكُبْرى.
وَعَلَى طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْعالَمِ، تَتَّخِذُ حُكوماتٌ خُطُواتٍ تَشْرِيعِيَّةً لِضَبْطِ الْمَساحَةِ الرَّقْمِيَّةِ؛ فَبَعْدَ تَشْدِيدِ الْإِجْراءاتِ عَلَى اِسْتِخْدامِ الشَّبابِ لِوَسائِلِ التَّواصُلِ الِاجْتِماعِيِّ، تَتَّجِهُ بِلادٌ مِثْلَ أُسْتُراليا لِوَضْعِ خُطَطٍ وَطَنِيَّةٍ لاِسْتِثْمارِ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ وَتَنْظِيمِهِ فِي آنٍ واحِدٍ، عَبْرَ دَعْمِ مَراكِزِ الْبَياناتِ وَتَكْوِينِ الْكَفاءاتِ وَرَسْمِ أُطُرٍ لِحِمايَةِ الْجُمْهورِ مِنْ تَجَاوُزاتِ التِّقْنِيَّةِ. وَفِي إِفْرِيقِيَا تَظْهَرُ نَماذِجُ لِاسْتِخْدامِ الْخُوارِزْمِيّاتِ فِي إِدارَةِ الشُّؤونِ الْحُكومِيَّةِ وَتَقْوِيَةِ الشَّفّافِيَّةِ، إِلَى جانِبِ نِقاشاتٍ صَحافِيَّةٍ مُتَصاعِدَةٍ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ تَحَوُّلِ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ إِلَى عُنْصُرٍ يَعِيدُ تَشْكِيلَ مِهَنَةِ الصَّحافِيِّ نَفْسِها، بَيْنَ مَنْ يَراهُ تَهْدِيدًا لِفُرَصِ الْعَمَلِ وَمَنْ يَعُدُّهُ فُرْصَةً لِتَحْرِيرِ الصَّحافِيِّ مِنْ أَعْمالِ الرُّوتِينِ لِيَتَفَرَّغَ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّحْلِيلِ.
فِي خِضَمِّ هٰذَا كُلِّهِ تَبْرُزُ مَسْأَلَةُ أَمْنِ الصَّحافِيَّاتِ وَالصَّحافِيّاتِ النِّسَاءِ خُصُوصًا فِي الْفَضاءِ الرَّقْمِيِّ؛ إِذْ تُنَبِّهُ تَقاريرُ دُوَلِيَّةٌ إِلَى أَنَّ الْعُنْفَ الرَّقْمِيَّ وَحَمَلاتِ التَّحْرِيشِ وَخِطابِ الْكَرَاهِيَّةِ الَّذِي يَسْتَهْدِفُهُنَّ يَجْعَلُ إِسْكاتَ صَوْتٍ واحِدٍ مِنْهُنَّ مُعادِلًا لِإِسْكاتِ آلَافِ الْأَصْواتِ. وَهكٰذَا يَتَحَوَّلُ نِقاشُ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ إِلَى نِقاشٍ حَوْلَ حُقوقِ الْجَسَدِ وَالنَّفْسِ وَالسَّلامَةِ النَّفْسِيَّةِ فِي زَمَنِ الْخَوارِزْمِيَّاتِ.
أَمَّا الْأَدَبُ الرَّقْمِيُّ فَيَخْرُجُ بِهُدُوءٍ مِنْ ظِلِّ "الْهَوامِشِ التَّجْرِيبِيَّةِ" إِلَى صَفِّ الْأَخْبارِ الرَّئِيسَةِ. فِي الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ يُلاحَظُ أَنَّ الْمَهْرَجاناتِ الْكِتابِيَّةَ وَمَعارِضَ الْكُتُبِ الْكُبْرَى تَزْدادُ فِيهَا الْجَلَساتُ الْمُخَصَّصَةُ لِأَدَبِ الشَّاشاتِ وَالْكِتابَةِ التَّفاعُلِيَّةِ وَالْكِتابِ الْمُرافِقِ لِلصَّوْتِ وَالصُّورَةِ، مَعَ نِقاشاتٍ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ الاِسْتِفادَةِ مِنَ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ وَالتَّسْوِيقِ وَإِعادَةِ تَصَوُّرِ عَلاقَةِ الْقارِئِ بِالنَّصِّ. وَتَعْمَلُ مَراكِزُ لُغَوِيَّةٌ وَثَقافِيَّةٌ فِي الْخَلِيجِ وَالْمَشارِقِ عَلَى إِطْلاقِ مَبْادراتٍ لِدَعْمِ الْمَنْصّاتِ الرَّقْمِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لِلنَّشْرِ وَلِتَشْجِيعِ الشَّبابِ عَلَى إِنْشاءِ مَسارِحِهِمُ السَّرْدِيَّةِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْإِنْتَرْنِتِ، بَدَلًا مِنْ الاِكْتِفاءِ بِدَوْرِ الْقارِئِ السَّلْبِيِّ.
وَفِي إِفْرِيقِيَا تَبْرُزُ مَشاريعُ لِكُتّابٍ وَفَنّانينَ يَجْمَعونَ بَيْنَ النَّصِّ وَالصُّورَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ وَالْأَدَاءِ الْمَسْرَحِيِّ الرَّقْمِيِّ، حَيْثُ تُسْتَعْمَلُ الْمَنْصّاتُ وَالتَّطْبِيقَاتُ الْمَحْمُولَةُ لِسَرْدِ قِصَصِ الْهُوِيَّةِ وَالْهِجْرَةِ وَالذَّاكِرَةِ الْاِسْتِعْمارِيَّةِ بِطُرُقٍ غامِرَةٍ تَجْعَلُ الْقارِئَ لاعِبًا وَشَرِيكًا فِي تَشَكُّلِ النَّصِّ. وَفِي الْعالَمِ كُلِّهِ تَتَسارَعُ التَّجارِبُ الَّتِي تَمْزِجُ بَيْنَ الذَّكاءِ الْاِصْطِناعِيِّ وَالْأَدَبِ، مِنْ تَجْرِبَةِ بَاحِثِينَ يَسْأَلونَ: هَلْ يُمْكِنُ لِلْآلَةِ أَنْ تَكُونَ مُضْحِكَةً أَوْ شَاعِرَةً؟ إِلَى مَشاريعَ أُخْرَى تَسْتَعْمِلُ النَّماذِجَ اللُّغَوِيَّةَ فِي بِنَاءِ عَوالِمَ خَيالِيَّةٍ تَتَجَدَّدُ مَعَ كُلِّ قِراءَةٍ.
وَبَيْنَ مَا يَجْرِي فِي الْمَغْرِبِ وَالْعالَمِ الْعَرَبِيِّ وَإِفْرِيقِيَا وَما يَدُورُ فِي الْمَرَاكِزِ الثَّقافِيَّةِ الْعالَمِيَّةِ، يَتَّضِحُ أَنَّ الْخَيْطَ النَّاظِمَ لِكُلِّ هٰذِهِ التَّطَوُّراتِ هُوَ سُؤالُ الْهُوِيَّةِ فِي زَمَنِ الْخَوَارِزْمِيَّاتِ: كَيْفَ نَحْفَظُ تَعْدُّدَنَا الثَّقافِيَّ وَنَسْتَغِلُّ في الوقت نفسه قُوَّةَ الأَدَواتِ الرَّقْمِيَّةِ؟ وَكَيْفَ نَضْمَنُ أَلّا تَتَحَوَّلَ الْمُدُنُ وَالشَّاشاتُ وَمَنْصّاتُ الْمُحْتَوَى إِلَى مَسارِحَ لِلاِسْتِبْعادِ وَالْعُنْفِ، بَلْ إِلَى فَضاءاتٍ لِلتَّداخُلِ وَالْحِوارِ وَحِراسَةِ الْكَرَامَةِ الْإِنْسانِيَّةِ؟ إِنَّهُ يَوْمٌ ثَقافِيٌّ وَإِعْلامِيٌّ مُثْقَلٌ بِالْأَسْئِلَةِ، غَنِيٌّ بِالْمَشاريعِ، يَرْسُمُ مَعالِمَ الْأَيّامِ الْقادِمَةِ فِي الْمَغْرِبِ وَما وَراءَهُ.








0 التعليقات:
إرسال تعليق