لا أدري من أين أبدأ تمامًا، ربما من تلك اللحظة التي صرتُ أشعر فيها بأنّ الكتب، بكل صلابتها الورقية، تبدو فجأةً هشّة أمام ما يحدث حولها. شيء يشبه انكساراً خفيفاً في صوت العالم. كلّ شيء يتغيّر، حتى الحكاية التي كنّا نظنّ أنها آخر ما يُمسّ. وفجأة يظهر هذا الكائن الغريب باسمٍ حزّاز: البلوكشين.
كنت أظنه مجرد أداة لبيع العملات المشفّرة، فإذا به ينزلق شيئًا فشيئًا نحو ميدان آخر: ميدان السرد. وكأنه، بطريقة ما، يريد أن يقول: «دعوني أكتب معكم».
بدأت أتابع تجارب مبعثرة هنا وهناك. أخبار صغيرة تتناثر مثل قصاصات جرائد قديمة: كاتب شاب يبيع فصلًا من روايته على شكل NFT. دار نشر أمريكية تتحدّث عن حماية المؤلف عبر “دفترٍ لا يصدأ”. ورواد منصات التكنولوجيا الثقافية يلمّحون إلى أنّ ما يحدث ليس مجرّد موجة عابرة.
كان من الصعب تجاهل كل ذلك، لأنّ الفكرة ـ بقدر ما تبدو غامضة ـ تحمل بداخلها ذلك البريق الأول الذي جعل الإنسان يبتكر الحرف نفسه.
أكثر ما أثارني هو هذا السؤال:
لمن تعود الرواية إذا كانت موزّعة بين مئات الأيدي؟
ليس السؤال سهلاً. ولا سريعاً. هناك دائماً شيء يهرب بين الكلمات. كأنّ النص يفلت عمدًا، يتسرّب، يرفض أن يبقى مغلقًا داخل مجلدٍ واحد.
قد يقول البعض إنّ هذه هي الفوضى عينها، لكنّ الفوضى التي تتنفس يمكن أن تكون — في حالات نادرة — طريقة من طرق إعادة تنظيم العالم.
فكرة “السرد اللامركزي” لا تشبه أي شيء عرفناه في تاريخ الأدب.
الرواية هنا لا تتبع مؤلفًا واحدًا. لا تجلس في مكتب ناشر ينتظر تقارير المبيعات. لا تعرف حتى شكلها الأخير، وربما لن تعرفه أبدًا.
إنها كالنهر الذي يرفض أن يعترف بشاطئ واحد.
تتفرّع. تتلوى. تتعمّق.
وتسمح — للمرة الأولى ربما — للقارئ بأن يصبح جزءًا من أمراسها الداخلية، لا مجرد عين تراقب من بعيد.
أعرف أنّ الفكرة مربكة. أعرف أيضًا أن البلوكشين ليس السحر الذي سيُعيد للأدب مجده المفقود. لكنّ الذي يدفعني للتفكير طويلاً هو أنّ كل أزمة يعيشها النشر الدولي اليوم، من انهيار مبيعات الكتب إلى صعود القرصنة ومعارك حقوق التأليف، تبدو وكأنها تطلب — بإلحاح — نظامًا جديدًا، نظامًا لا تُقرّر فيه جهة واحدة مصير النص.
شيء مشابه لما تحدّث عنه باومان حين وصف الحداثة بأنها “سائلة”.
لعلّ الرواية أيضًا صارت سائلة، تتسرّب من كل اتجاه، ولا تريد أن تُغلق في زجاجة.
لستُ ضدّ هذا التحوّل. ولستُ معه بالكامل.
لكنني، بكل صدق، أشعر أن الأدب يقف الآن أمام مفترق طرق، تمامًا كما وقف حين ظهر الإنترنت، ثم ظهر الكتاب الرقمي، ثم ظهر الذكاء الاصطناعي.
لكنّ الفرق هذه المرة أنّ التقنية لا تريد فقط أن تُقدّم الكتاب في شكلٍ جديد… بل تريد أن تغيّر “مفهوم الملكيّة” نفسه. تريد أن تقول إنّ النصّ ليس شيئًا ساكنًا، بل عقدًا تعاقديًا بين المبدع والعالم، بين القارئ والنسخة، بين التاريخ والذاكرة.
ولك أن تتخيّل نصًا يُعيد كتابة نفسه لأنه ينتمي للجميع.
نصًّا تُدوَّن كلّ ذرة منه في سجلّ لا يصدأ.
نصًّا لا ينسى من شارك فيه، ولا كيف تغيّر، ولا في أي لحظة ارتجف.
قد يبدو هذا كلّه محض حلم، أو كابوس، حسب زاوية النظر.
لكن ما أعرفه — أو ما بدأتُ أشكّ أنه الحقيقة — هو أنّ الروايات التي ستأتي قد لا تُكتب كما كتبها أسلافنا.
ستكون أقرب إلى أشجار تنمو بلا بستانيّ واحد.
بلا جذرٍ واضح.
بلا ظلّ موحّد.
أعرف أنّ الجملة التالية تبدو شاعرية أكثر مما ينبغي، لكنني أقولها على أي حال:
ربما أرادت البلوكشين أن تمنح الرواية قلبًا جديدًا، لا ينبض بيد واحدة، بل بمجتمعٍ كامل يتقاسم الحبر، والحق، والذاكرة.
وهذا، مهما بدا مجنونًا، يستحق أن ننتظر لنرى إلى أين يمكن أن يقودنا.








0 التعليقات:
إرسال تعليق