الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 16، 2015

الفنان.. كوميديا قصصية

الفنان.. كوميديا قصصية
من عين علبة ص.ب ألفاها رسالة وردية نائمة في وداعة... بحلق في ظلام العلبة.. أخيرا استطاع أن يفك حروفها اللاتينية De la part de Mme Jacqueline
Directrice de la Galerie Post-modernité
Avenue Arc-en-ciel
Rabat
خفق قلبه ودارت به الأرض ب 180 درجة.. أخيرا بعد طول هذا العمر ها هو يحظى من أحد أشهر الغاليريهات بدعوة لعرض أجمل لوحاته.. أخيرا تحقق الحلم... هذا كل ما كان يأمله وما كان ينقص سيرته الفنية إن على فقرها أو غناها لا يهم، المهم هي ذي إذن فرصة العمر كي يرتقي درجات الشهرة أو على الأصح كي يسخر من كل من إستخف بعبقريته التشكيلية فيما قبل.
كيف له أن ينسى نظرات الازدراء من زوجته حين كانت تداهمه في ورشة المرسم لتلقي بقائمة أغراضها على وجهه أوعلى الأصح على وجه لوحته متعمدة في حقيقة الأمرأن تفسد عليه خلوة إلهامه ونشوة إنغماره اللذيذ في لحظة تيه الإبداع وجذبة الفرشاة... أما الأصدقاء!! أي أصدقاء؟؟ دائما يهمس للوحاته فلا فرق بين بطونهم وجماجمهم ... كل شيء في حواسهم وجوارحهم إما ترينه يمضغ أويجرد في الخيال العابرات من سراويل الجينز اللصيقة بخاصراتهن .. هذا قصارى ما ينجزون لأنفسهم وللآخرين.. وكثيرا ما فكر في فتح باب مرسمه لهم، غيرأنه كان يحدس أن مرورهم من هناك سيكون كاجتياح التتار والماغول أو مثل الحريق الذي سيأتي على معلمة ثقافية وطنية لذلك فقد أوصد في وجوههم كل دعوة للزيارة ثم فوق كل هذا وذاك أن ما أجج حقده على الأصدقاء أنه لم يستخلص بعد ولو درهما واحدا عن لوحة إقتناها أحد المزقرمين من دون أن يفطن فناننا إلى اليوم لا بالغمزولا باللمز، أن صديقه المزقرم لم يقتن اللوحة إلا إشفاقا عليه ومؤازرة معنوية له ليس إلا....
واليوم ها فنان آخريولد من رحم رسالة وردية نائمة في غرفة ص. ب.. وها شمس الإعتراف أخيرا تلقي بأضوائها الكاشفة عليه... لا شك أن وسائل الإعلام، مرئية ومسموعة ومقروءة، سوف تتدافع لهذا السبق الصحفي كما الفنانين التشكيليين العظام القاسمي والصالدي والغرباوي والشعيبية ... وسيوقع المئات من الزوار في دفتره الذهبي وسيملأ جيب معطفه بكثيرمن الشيكات عن لوحات معروضة وشيكات أخرى مؤداة مسبقا عن لوحات لا زالت أفكارا هائمة في مخياله... وفي مساء الإفتتاح كما جرت التقاليد الثقافية في ربوع الوطن سيتناول عشاءا فاخرا وراقيا لاتحد مائدته العين في فندق (شيراتون) على حساب نائب برلماني أوعمدة المدينة...
ــ الفنان!! الفنان!! ألفنان !!
هكذا يناديه أصدقاؤه ومعارفه وحتى أولئك البدويين النازحين الذين استوطنوا الحارة في آخرليلة..
أما النداء فلم يكن في حقيقة الأمرسوى شماتة في غالب الأحوال لذا فقد كان يتغافل النداءات ــ هؤلاء البلهاء ليقولوا ما يشاؤون ــ يقول في نفسه : أجل أنا فنان بألف ممدودة إلى عنان السماء (فنااااااااااااان) موتوا بغيظكم ولدي ورشة لم يحلم بها أشهركم فنا في البلد ولي بها الكثير من اللوحات الجاهزة واللوحات الوشيكة والعشرات من اللوحات الملغاة.. أما هؤلاء الأصدقاء الأوغاد فهم لا يدركون ما معنى أن يعيش بينهم فنان تشكيلي! ..
يسحق عقب سيجارة الفافوريت . يسوي قبعته البودليرية ويطلق على الصدرشاله الوردي الطويل المطرز ويمضي في متاهات الحارة خافضا بصره ومتلافيا المرور من أمام الدكاكين والحوانيت ونظرات الباعة وألسنتهم المسننة التي مرغت غيرما مرة كبرياءه العبقري في وحل القروض والسلفات الطفيفة...
الفنان!! الفنان!! ها..ها..ها...
دس الرسالة في جيب بلوزته البيضاء المرقطة بلمسات الأصباغ التي يسميها حوادث الشغل.. نزل إلى الورشة، أشعل سيجارة.. دار دورة ببصره حولها.. يمج وينفث الدخان في إنتشاء وزهو فائق.. كان أمام كل لوحة يتقدم ثم يتراجع.. يقطب حاجبيه.. يزم حدقتيه ويلوي عنقه.. عشرات اللوحات هنا وهناك.. صامتة تنتظرحظها مثل عارضات الأزياء.. لوحات بلا أسماء وبلا عناوين... إن أشد ما يكره هو أن يعنون لوحاته بدعوى أن عنونة اللوحة هو إغلاق لانفتاحها على جمالية اللامعنى كما أن الإسم يطوق عالمها الفاتن والمطلق وأخيرا فهو يعتبرالإسم إجابة فاشلة بشكل ضمني على الأسئلة العالقة التي قد تدور في أذهان الزوار.. لذا.. لذا فهو يترك لوحاته لفرضيات الإسقاطات النفسية... وفي لحظة ما شرع ينتقي لوحاته الثلاثين التي سيعرضها أوبالأحرى ستودعه قريبا وإلى الأبد وسيقتنيها مدراء الأبناك والمؤسسات الخاصة وشركات التأمين ومكاتب المحاماة والمصحات النفسية والفنادق الباذخة و.. و... ولقد قررأن يكتم سرالرسالة العجيبة عن زوجته وأولاده، فلوعلموا بها فلا شك أن شهيتهم ستنتفخ وأن لائحة المطالب ستطول ولا محالة أن زوجته سوف ترتبط به أيما ارتباط وسوف تلازمه في سفرته الفنية إلى العاصمة ليس من أجل مؤانسته بالهمسة الرخيمة والابتسامة الدافئة وإنما من أجل استخلاص الشيكات وحساب المداخيل وهو يعلم علم اليقين بطيشها وخفة يدها وعماها حين تسمع برنين الدراهم في جيبه فهي لن تتوان ولو لحظة قصيرة عن إخراج الآلة الحاسبة وأمام الجمهور كان من كان... لذا.. لذا واتقاءا واستباقا لكل هذه الكوارث المهينة فقد قررأن يدعي أن الأمريتعلق بمعرض جماعي تنظمه إحدى سفارات الدول العربية الخليجية بالعاصمة...
لف لوحاته في لفائف من الجرائد القديمة.. كان في كل مرة يدخل محملا بحزمات منها.. أدركت زوجته أن أمرا ما قد طرأ.. نزلت الورشة خلسة فألفته منهمكا في تلفيف آخراللوحات... أيقنت بما لا يدع مجالا للشك أن أوان رحيلها قد حل بعد كل هذا العمرالطويل من الغطس في الأصباغ وألوان البؤس والتحليق عاليا في قوس قزح للبحث عن الشهرة الواهية... الحمد لله.. الحمد لله.. قالت في سرها وعلت محياها إشراقة هناءة وانفراج .. لقد آن لهذه اللوحات أن ترحل.. لكن إلى أين؟ ومقابل كم؟ وترى من سيكون هذا المنقذ من الأصباغ الذي سيفرج كربتها من غم تلك الشخابيط واللخابيط التي تملؤ القبو بلا طائل... وقبل أن تقصفه بأسئلتها الرصاصية كالعادة استبقها إلى الحديث وأخبرها أنه سيشارك في معرض جماعي بإحدى السفارات العربية بالعاصمة : ( لا مفر من الكذب... الكذب شرط من شروط الشهرة... الكذب أقصر طريق إلى المجد!!) هذا ما علمه الفنانون وهكذا وصل الكثيرمنهم إلى القمة فلماذا لا يجرب أن يكذب ولومرة واحدة في العمرعلى زوجته الغلبانة .
قبل تاريخ افتتاح المعرض بأيام كان جاهزا.. اللوحات ملفوفة بعناية وكل لوازمه على أهبة.. كان في قرارته يستعجل الموعد وكان كل يوم يمريستشعره كما لو أنه يبعده عن اليوم الموعود.. وبدأ يشعر بالزمن يتثاقل حتى خمن أن الزمن صديق وقح مثله مثل الأصدقاء الآخرين.. وفي صباح الموعود قررأن يسافرإذ عليه أن يحل باكرا بقاعة العرض فمديرة الغاليريا تعلم بقلة تجربته في تنظيم المعارض... لذا فقد جاءته دعوة جاكلين رسالة وردية مفصلة بإجراءات مرتبة باليوم والساعة لوضع الترتيبات الفنية المتعلقة بمساقط الإنارة وتناسقها مع الأضواء الطبيعية الخارجية وعلاقة كل هذا بإطارات العرض وزوايا الرؤية ومواقع المشابك... الخ
كانت الناقلة رابضة على الرصيف، وكان الحمال يلقي بالأمتعة على السطح. حين وصل الفنان ولوحاته الثلاثين على متن (هوندا) كان من حسن حظه أن رتب الحمال اللوحات فوق الأمتعة الأولى على سطح الناقلة.. وحمد الله على حظه هذا وحظ لوحاته.
صباح ربيعي جميل.. ربما أجمل صباح في العمر.. بعض سحابات سكرية كأنها لمسات بيضاء سوريالية على قماش أزرق.. منظر أنعش وأيقظ كل الحواس الفنية، وهناك في المدى الرمادي البعيد باتجاه العاصمة لحاف غيوم داكنة تنذربزخات خفيفة.. عالم رائع، ملتئم في انصهار تلقائي ليشكل مع نشوته الجوانية لوحة طبيعية رائعة... شعر أن لا أحد من الركاب عبئ بهذا المشهد الطبيعي الفاتن.. وحده إذن.. وحده وقدره أن يعيش نعمة الفن كل لحظة وحين في كل المرئيات وفي كل مكان حتى داخل هذه الناقلة المهترئة المتصدعة التي أنهكتها الحمولات الزائدة .
كانت العجلات من تحته كتيوس أربعة تلتهم المسافات والمنعرجات، وكلما أوغلت الناقلة في الطريق كلما شعربالأفق يفتح ذراعيه له وللواحاته الثلاثين على السطح. بعد لحظة توارت الشمس خلف سحابات داكنة، ثم لاحظ على النوافذ قطرات رذاذ قليلة.. داعبته وسنة لذيذة.. لقد ألف أن يغفوبعد الظهيرة.. تمايل وتهويدة الناقلة يؤججان أيضا حلاوة غفوته المعسولة.. لقد استطاب هذا الاسترخاء، فلا بأس إذن أن يحلم قليلا وهو لا محالة على وشك تحقيق حلمه الأكبر لكنه حلم واقعي هذه المرة وفي العاصمة الرباط...
لقد غفا واستغرق في نومه إلى حد الغطيط وضاع شخيره في هرهرة ولعلعة وصفطقات أضلع الناقلة ولم يستفق إلا على خبطة كف العون على بابها الخلفي (باط .. باط .. باط .. أعلى سلامتكم)
استفاق فجأة.. إنها العاصمة تغرق في أمطارعاصفية.. ألفى مياه الأمطارمثل خراطيم صغيرة تتدفق على جنبات الناقلة تلتها طقطقات حبات برد كثيف أتلفت صوت الراديو ولغط الركاب ونظراتهم التائهة... كان لا يسمع من حوله سوى (الحمد لله.. مبروك الروا.. الحمد لله مبروك الروا) وانفرجت أساريرالركاب البدو الوافدين على العاصمة لحل مشاكلهم التي إستعصى حلها في الأقاليم.. فقد كان الموسم الفلاحي على شفا كارثة جفاف آخر وعطش يزداد على عطش سابق.. أما هو فقد كان ينتشي برؤية التشكلات المطرية التجريدية تتدفق وتنزلق على زجاج النوافذ.. هو فنان وكفى.. فنان فوق كل الأحوال الجوية والأزمات الاقتصادية ووعكات البورصات.. ما شأنه بكل هذه التقلبات فأرضه لوحاته ومحراثه ريشته وبعد قليل سيجني مازرعت يداه منذ عقود...
توقفت الناقلة وتحولت الأمطار والبرد إلى زخات خفيفة منعشة ورائقة.. طفق الركاب يهرعون إلى سقوف المقاهي والمطاعم الصغيرة.. شرع الحمال ينزل اللوحات الواحدة تلو الأخرى . فجأة أوووووه !!! يا للمصيبة ويا للهول !!! كانت كل اللوحات مبللة كأنها انتشلت للتومن قعر صهريج، ومن خلل تخاريمها بدت الألوان شخابيط ولخابيط.. كل الألوان تميعت واندلقت وطمست ملامحها الغضب السماوي .. كل اللوحات بارت.. الخطوط والدوائر مثل أفواه كاريكاتورية واسعة منصرفة في كركرات لا تنقطع ... تذكرنداءات الحاقدين (ألفنان .. !!ألفنان .. !!) هو الزلزال نفسه يرجه في الداخل.. ماذا يستطيع الآن؟ لقد انهارعليه الهرم . الصرح الذي بناه في القبو.. حتى الطبيعة على نقائها وطهرها المعهود خذلته في آخرلحظة.. ماذا يستطيع الآن؟؟ صوت امرأة يأتيه من بعيد (فين اللحم والخبزوالبوطا غاز ... يألفنان ؟) صدى أصوات تطوقه من كل جانب (ألفنان.. !!الفنان .. !!) والأمطارأيضا تهتف به (الفنان !! الفنان ..!!) حتى هديرالسيارات تحول إلى نداءات ...
فجأة شعربلكزتين قويتين في جنبه وبيد سيدة تطبطب على صدره وتقول: (إصح .. إصح من نومك قبل أن تزهق روحك الكوابيس.
دعك عينيه بقوة كانت الساعة قرب الوسادة تتكتك الساعة السابعة صباحا، جلس على حافة السريرأرسل زفرة قوية وقال : (الحمد لله.. الحمد لله اللوحات لم تبللها الأمطار!!! ) ما أفظعه من كابوس 

0 التعليقات: