الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 16، 2015

زهرة النيلوفر

زهرة النيلوفر
... لذا كنا نخشاه ... من بعيد أو من قريب .. ونحن نسير على الحد الفاصل بين شلال الشمس وظلال السور الذي ينتصب على رميم الغرقى.
كنا نرى العظام الثلجية ولا نجرؤ على النبش خوفا من أن نوقظ أرواحها القديمة فنصاب بمس عظيم .
لست أدري من أوحى إلينا بمزاره فقصدناه كالمريدين ، إذ كان رحيلنا المسائي أشبه برقصة الفراش الهائم... رقصة لاأول ولاآخر لها .

هناك .. تحت البوابة الأرجوانية العتيقة توقفنا . أحسسنا بحرارة الجسد تنخفض بالقدر الذي يجعل هبة نسيم عابرة باردة علينا كدش المصيف.
قلت لأبي : أجل لقد رأيت الذراع هنالك .. وحدها في غمار الماء .. هنالك تخبط على السطيحة ثم لم تظهر ثانية .
رنونا إلى المسارح المائية الشفيفة .. ثم قال : قد تكون ذراع سيدة عاشقة، لاشك أنها ذراع سيدة متلبسة في فستان سهرات الآدميين .
كانت على الذراع علامة زهرة النيلوفر.
بدا النهرمنصرفا في أزله إلى خوانق التلال القصية .
طفقنا نترقب أن تخبط ذراعها ثانية ، بيد أنها لم تطف .. مثلما المجذاف يندفن أو يختفي .. اختفت زهرة النيلوفر. أشرت إلى الأعماق وأعدت عليه دون أن أشعر : أبي لقد خبطت هنالك ، صدقني. . ذراع مشمرة على ساعد ناصع كالقشدة.. بفستان السهرات المشغول بضفيرة البرشمان ...
توقفنا .. اتكأنا على جذع السورالرخو ... مشدوها كنت .. تساءلت إن كان بالنهرعلى صغره ،  أرواحا ، حوريات  أوحيتانا تخبط بين الحين والآخر على هدوء الصفيحة المائية وتطفو بعيونها القرمزية الصغيرة لتترصد الأقدام المختالة على الحافة ونحن نشاطئ النهرعلى الحد الفاصل بين شلال الشمس وظلال السورالذي ينتصب على رميم الغرقى...
ران علينا وعلى المسارح الزرقاء صمت رهيب ، أشبه بصمت القبور.. والنهرمسافر زاده قرابين زهرات النيلوفر.. يمضي تحت أنظارنا في دفاقه الغريب ، إلى بطون التلال المندالة...
مكثنا لهنيهة نتسمع لهسيسه الأسطوري الغامض ونترقب خبطة الذراع ثانية ...
قلت في نفسي ، يقينا أنها الآن في كنف الأعماق ، على مهاد القعر.. ببطنها المتورم بالماء وفستان السهرة الذي تراقص تلابيبه المويجات السفلى وضفيرتها عمودية كحزمة سنابل وعيناها لم تعلوهما بعد سحبة القرارة.
كان النهر يمضي غيرعابئ بنا أو بالدراع التي ننتظر أن تخبط ثانية على السطيحة .. خبطة جناح مكسور.
هنا في النهر ترقد سيدات كثيرات ... من لم يخضب راحتهن عسل الحناء العذراء .. من خذلتهن مقصورة الهودج فألقين بأجسادهن في نيران المياه السفلى ، خوفا من أن تنقش أسماؤهن على بوابة الحارة ... قد تكون تلك الذراع المتلحفة في فستان السهرة آخرتهن ، فلنستمر في الإنتظارأو قد يأتي صيادوالليل بعصا النبوة لتشق صدرالقرارة فنرى زهرة النيلوفرممددة على مهاد القعر.
وانتظرنا مساءا .. كانت الغلالة البنفسجية تنثال على المسارح بإستارتها الشفيفة والنهريمضي كما ألفناه غيرعابئ بالوقت وبانتظاراتنا .. نهرا صامتا كان .. منطويا على سره الدفين ...
لمحنا عصافيره تؤوب إلى وكوناتها في مسامات السورالعريض كما آخر نسائم الأصيل التي تزف بين قامات السنديانات إلى ملاذها.
كنا آخرمن مرعلى حافة النهر .. حين لم تخبط الذراع ثانية عدنا نحن أيضا مثل العصافير .. مثل النسائم .. مثل النمل .. مثل طيور اللقلاق التي تعتمرقنان أشجارالصفصاف على الحافة ..
حدثني عن هياكل أخرى طفت في ذات النهرفي الأيام الخوالي .. وعن رجال زلت أقدامهم الجذلانة بعد أن استراقوا دنان ( كروان) وهشموا قلالهم الأرجوانية على عتبات الفجر .
ربما جنحت بهم الغواية إلى البدايات أو استعرألم الأعماق إلى قمة أشهى الميتات ...
...لذا كنا كثيرا ما نسمع عن سكارى غرقى في النهر وسكرانات غريقات  في البر .. وكثيرا ما كانت نداءات الغوث تتناهى إلى مسامعنا في دروبنا القصية فلانجهد البال في شراك الجواب عن السؤال .
النهر دائما هو سؤالنا الازلي ... كان يعبر في يوميات مخيالنا مثلما يعبر في تضاريسه .. ويكبرعشقه فينا بقدرما تغرق القرابين في أعماقه .. كلما تعددت القرابين توقدت فينا فتنة السفر في قارته السفلى ...
كانت الأصباح تفصح عن شهوة النهر... كان النهريلايل أرواحه .. يضمها ويدثرها بالأعشاب ... فنتساءل هل كان للخصب والرواء أم كان قبرا لزهرات النيلوفر.
لقد رأيت الذراع والعلامة ثم جسدا من تراب القرارة والكفن من قماش الطحالب وأعشاب الخزاللزجة ...
على الحافة كنا نتملى بهلع جسدها الأخضر وأيادي الرجال الضفادع تنتشل ما طفا على السطيحة من رميم .
تركنا خلفنا الباب العتيق المطرز بتوقيعات العاشقين ( الحب لايموت ــ راني كنحماق عليك ــ ع +ف = الحب ــ سهام كيوبيد الإغريقي التي تخترق قلب العاشقات ... )
أسرعنا إلى الحافة كانت زهرة النيلوفر في ذات الركن .. جسد ململم في فستان المسامرة ...
وعلى الجبين ما تبقى من بسمة القمر,
على الصدر قلادة لآخرالتنهيدات
على الشفاه بقايا مواويل ...
على الربوة أقداحها اليتيمة ...
لم يعد أحد يبكي على ليلاه .. كلنا نبكي زهرة النيلوفر..  نبكي الدراع التي ظهرت ثم غرقت فجأة .
بعد أيام عدت وحدي ألفيت النهرعاريا .. منتفضا وصراخه يملؤ الآفاق .. تمليت طويلا تلك الأمداء المائية الشهية ... انحدرت خلفهم  شعرت بخوف طفولي غريب .. ورغم ذلك اتقدت في نفسي شهوة الأعماق مثلهم .. كنت واقفا على الحافة وعلى حين غرة امتدت من تحت الماء ذراع النيلوفر وسحبتني بلطف .. ارتطم جسدي بالسطيحة .. كان الماء ينفذ شيئا فشيئا فابتللت بالكامل .. لم أقاوم هذا الغرق .. حينما لمست قدماي القعر والأصداف والطحالب والأعشاب الرخوة .. عرفت أنني قد غرقت .. لم أقاوم هذا الغرق.. تجرعت الكثير من الماء وما يكفي من الموت.. قلت لها من تحت الماء وكانت الحروف فقاعات تصعد من فمي : ما ضرأن أغرق معك أيتها النيلوفر، حسبي أنني فهمت معنى الأعماق.. 

0 التعليقات: