الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أبريل 16، 2018

تغريدة الظهيرة : عبده حقي

الإهداء إلى الصديق الدكتور يحيى اليحياوي
في عزظهيرتها تواطأنا واتفقنا معا على أن نشاكس رماح الشمس الخفيضة من خلل ظلال الصنوبرات المكابرة في صمتها الملغز أمام مركب الحرية .. وشرعنا من دون اتفاق سري نطرق بوابات فاسالعتيقة .. بوابة بعد أخرى .. من بوابة الواجريين الحديثة إلى باب بوجلود وباب مولاي إدريس وإنتهاءا بباب الرصيف ...
لم يسلم بساط الريح المعدني من تحتنا هوالآخرمن ذلك اللهيب المضمخ بالعرق الذي تنعشه نسائم الربيع القادمة من روابي منتجع سيدي حرازم .
ركننا السيارة لرحمة الشمس الواطئة في ساحة بوجلود القفراء والمتعبة وتركنا خلفنا أكورا البطحاء تتلفع بظلالها المنعشة .. بعتاقتها المتفردة وتعلن للزائرين عن صدرها الفاسي البض المزدهي بقلادته المرمرية التي نقشت عليها بإزميل التاريخ أسماء نساء ورجال وطنيين إسترخصوا دماءهم المتوهجة من أجل حلم كبيرعنوانه (مغرب يتسع للجميع) .
وانحدرنا على مهل ...
من عتبة زقاق (الطالعة الصغيرة) أو(الوول ستريت) الفاسي العتيق .. كما بدأت منذ الأزل ، وكما هي الآن لاتهدأ ولاتشبع من إتعاب زوارها المنحدرين أوالصاعدين .. كان صديقي يخطو بجانبي بتؤدة كأنما يقرأ تاريخها بحكمة الواثق والرصين .. وكنا نسيرمعا ونحن مشدوهين بذلك السؤال القديم الكامن في شقوق وثقوب الأسوارالهرمة : لماذا هنا في هذا القعرالبابلي الساحرالمضمخ بماء الساقيات الدفينة والمسيج بالجنائن والعرصات والرياضات العدنية المزنرة بالكبرياء التليد .. لماذا وكيف إجتمع في عمقه رأي الأولين على أن يحبروا تاريخنا الممجد ويعمدوا أسماءنا بأجمل الانتماءات إنطلاقا من عتبة هذا القعرالمكتنزمنذ 12 قرنا وبين أخضان العدوتين .
وكان الجواب يتجلى في كل باب خشبي متداعي .. في كل نافذة تفرك رموشها القاتلة من فتنة الماضي ودهشة الحاضر.. في كل تميمة .. في كل مرود وقارورة كحل .. كل فانوس أوإسورة أوعبق حناء طرية او قلادة من معدن (اللوبان السوداني) أوباقة نعناع ... وأجلنا أسئلتنا الأخرى إلى حين ونحن تستدرجنا لألأة المرايا النحاسية المعلقة على جبهة السورلكي نتوغل بأقدامنا أكثر في لعبة المتاهات السفلية العريقة ..
تحت سقيفة زقاق الحجرتوقفنا لكي نلتقط بعضا من أنفاسنا الهاربة أمامنا بشغفها التاريخي أبعد من رياح الشرقي التي كانت تهب من حين لآخر لتبعثر حديثنا .. وعلى حين غرة تحت سقيفة زقاق الحجرومن دون إتفاق تذكرت الأديب الصموت عبدالعالي الوزاني وتحفتيه النادرتين (أيام فاس الجميلة ) و(جنان السبيل) وتذكرمن جانبه رفيقي يحيى اليحياوي شيخ الشعراء محمد السرغيني أطال الله في عمره وقصيدته الرائعة (فواكه فاس السبع) وخلنا الرجل منتصبا أمامنا في الطالعة مثل أحد المجاذيب يتلوعلى الناس شذراته المنقوعة في حبرالحكمة حتى كدنا نسمعه لولا أننا استفقنا على رنات جرس (كراب) سقاء يتوشى بزيه الأحمرالمزدان بنياشين من نقود الصولدي والريال والفرنك والبسيتة والكرش والأوسمة النحاسية والفضية المرتجلة ..إلخ
إخترقنا بالكاد صخب باب (السنسلة) .. أصوات متناغمة تردد موشحاتها كل لحظة وحين .. كورال جماعي تلقائي هوتوليفة لأهجوزة تاريخية ترددها الحناجروزقزقات الحساسين المعتقلة في أقفاص (باب عجيسة) وهديل الحمائم والموسيقى الأندلسية وقدود الملحون ونقرات أجراس السقائين وخبطات صفائح الأحصنة على الأرض ولاحرج عليك حين تسمع (بلاك .. بلاك .. بلاك ) في أن تلتجئ إلى داخل دكان أوحانوت لكي يعبرقطارالدواب الزقاق محملا بالسلع العصرية والتقليدية من براميل الزيت والخليع وطناجرالأعراس الضخمة حتى الثلاجات والحواسيب المحمولة ...
هومهرجان يلتئم كل يوم من دون إتفاق تحت سنان أشعة الشمس التي تخترق السقوف القصبية لتسقط على أطباق الحلويات العسجدية ولفائف التريد وعراجين البلحالريصاني وحلويات البريوات والشباكية الصغيرة التي تشبه أروباس الإمايل ...
في ساحة الرصيف تحت المظلة الشفيفة كرعنا على عجل كأسينا من عصيرالبرتقال المنعش ... وازدحمت في ذهنينا وشوشات الأسئلة بين التاريخ والجغرافيا والمجتمع والثابت والمتحول .. بين مغرب الممكن ومغرب الخسارات .. بين أن نكون أولانكون .. وكانت في الأفق أمامنا تطل علينا الغرف برؤوسها مثل الحسناوات .. غرف على غرف ويجري حولها .. ماء ألذ من الرحيق .. وعلى يسارنا في شساعة الرصيف المبلطة حديثا يركض أطفال وراء الكرة وآخرون يلهون بدراجاتهم وشيوخ يغفون تحت أشجارالساحة ... كنا نرشف عصيرالبرتقال ونتسائل عن مستقبل هؤلاء وماضي أولئك ونسينا أن عقبة الطالعة الصغيرة تتوعد عودتنا بعنادها التاريخي الجميل والمتفرد ...
يوم 15 ماي 2012
 



0 التعليقات: