تعني كلمتا الصدفة (Hasard) والعشوائية
(aléatoire) كل ما ينفلت من سيطرتنا بغتة وكل ما لا يمكن توقعه في لحظة ما . ومكانهما
الذي يترددان فيه أكثر هو
ألعاب النرد والورق و الفيديو . غير أن هذين المفهومين قد
أسهما دائما وبشكل إيجابي في مجال الإبداع الفني . ومن دون شك أنهما قد وضعتا في قيمة الإبداعات
منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، و خصوصا مع ظهور الموسيقى العشوائية التي طورها
جون كيج (John Cage) أو إيرل براون (Earle Brown) وقد أخذتا مكانا خاصا في الأدب عامة حيث شكلتا عنصرا
أساسيا في الأدب الرقمي . و لكون حضورهما في مجال الإبداع أكثر منه في مجال استهلاك
هذا الأدب فإن الصدفة والعشوائية قد شكلتا قطيعة خطابية و سيميائية للأدب الرقمي.
و
يبدو أنه من الضروري أولاً تحديد مفهومي "العشوائية" و " الصدفة "
اللتان غالباً ما يتم الخلط بينهما.
يعود
مفهوم العشوائية (aléatoire ) إلى اللغة اللاتينية (alea ) التي تعني "ألعاب الرند والحظ ". ونقول عن
حدث ما أنه عشوائي عندما يمكننا من خلاله تحديد بعض الإشارات حول فرص تحقيقه ، بمعنى
أنه يقع تحت طائلة قانون الاحتمالات (probabilités) . إن العشوائية تتطلب حدثًا وسلسلة
إجراءات متتالية. وقد حدد فلاسفة التنوير (الصدفة) كسبب مجهول لفعل معلوم و المسؤول
عنه هو إله التوقيت Dieu Horloger .
يعرِّف
عالم الرياضيات كورنو Cournot مفهوم العشوائية بأنه
التقاء سلسلتين سببيتين مستقلتين . ويبدو هذا التعريف أكثر ملاءمة لظاهرة الأدب الرقمي
الذي يستند إلى الالتقاء الطارئ للممارسة المعلوماتية مع تدخل القارئ في هذه العملية
.
تم
انتقاد الأدب الرقمي فقط بسبب مظهره غير المنظم
. ومع ذلك ، فقد أظهر العديد من العلماء ، وخصوصا الفيزيائيون منهم أن الفوضى والنظام
عنصران متشابكان على الدوام في البنيات الأساسية للمادة . وهكذا فإن الفوضى تندرج
بنفس درجة أهمية النظام في مركزالكون . هذا هو ما سيحاول العديد من الرواد الطلائعيين
فهمه . وعن طريق الصدفة التي مازال ينظر إليها منذ أمد بعيد كحادثة طارئة للمادة ،
يمكن أن تولد بنيات جديدة واكتشافات فنية غير مسبوقة.
غير
أن هذه الأشكال قد قلبت بعض المفاهيم عند البعض : فالفنانون مثل مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp) في عمله "الموسيقى الخاطئة" على سبيل المثال
يتساءل عن معنى مفهوم خطي (linéaire
) معقلن ومهيمن في الفن الغربي . واليوم إن قراءة كتاب ما لا تتم بالضرورة بطريقة خطية
، قد نتصفح بل ونتخطى بعض الفقرات . لقد ساهم اختراع الكتاب في القرن الثاني عشر في
نفي الخطية مع اختراع الإضافات التدريجية لترقيم الصفحات و فهرسة المراجع ، وأدت إلى
طرق قراءة مختلفة "مثل القفز والتخطي " بحسب تعبير مونتين Montaigne. وهكذا فقد قامت الأعمال الموسوعية (Encyclopedique) بإعداد النص التشعبي المعلوماتي في قلب الأدب الرقمي مما أتاح الفرصة لاكتشاف القراءة بالصدفة : وهذا ما
يسمى ب (sérendipité) أي الاكتشاف أو الاختراع عن طريق الصدفة .
بعض
الكتاب يؤيدون هذه الحرية في الأجناس السردية القصيرة أو المتشظية كالأمثال والقصص
فهي تتلاءم بشكل جيد مع القراءات العشوائية (aléatoire)
. إلى درجة أن بعض المؤلفين قد ذهبوا إلى حد إعداد وصفة استعمال لقراءة غير خطية (non linéaire).
ولتحقيق
فكرة الصدفة هذه كتب كونو Queneau
مائة ألف مليار قصيدة من خلال جهازتوليدي قوي . وقد سمى الجهاز العشوائي
(stochastique ) جهاز إعلان يستند إلى العشوائية (aléatoire) نفسها التي تحكمها عوائق بنيوية .
في
مجال العشوائية تكمن خاصية الآلة في قدرتها غير المحدودة على جر قواعد المعطيات النصية
. إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه هو إنتاج كلمات تركيبية ومقبولة سيميائيا . عندما
يكون العشوائي متقنا وفقا لمعايير لغوية فإنه يبقى غير مرئي وغير محسوس لدى القارئ وتكمن مصلحته
إذن في التنويعات اللانهائية . وبالتالي يتم التركيز على العملية على حساب الإنتاج
: وينتج عن ذلك شعرية حقيقية للعملية .
وطبقًا
لتعريف كورنو Cournot
فإن كلمة (التقاء Rencontre)
هي التي تسمح بفهم أفضل كيف أن الفرصة تتدخل في عملية الخلق : إنه التقاء القارئ بالنص.
وجود هذه الصدفة يكشف عن براديغم التركيبية (combinatoire
) لكنه يضيف إليه بعدًا ظاهراتيا لأن الصدفة تفترض وجود شخص يواجه ظاهرة .
يؤثر
البعد القراري على القارئ في اختيار القراءة مثلما دور المؤلف في اختيار الكتابة. إنها
إذن ظاهرة عامة لأن التفاعلية هي التي تميز أي ابتكار فني للأدب الرقمي .
اتخذت
(الفرصة) عدة أوجه في الأدب منذ البداية . يمكنها أن تأخذ ملامح العناية الإلهية أو
تسيير أبطال المغامرات . لقد وضعها ديدرو وفولتير في قلب رواياتهما السردية واستخدماها
كمحرك للحبكة . وقد قيل في مطلع رواية (جاك المغامر) لدونيس ديدرو أن النص هو إنجاز
ممكن من بين تلك النصوص التي لن تُكتب أبداً . إن فكرة الأدب الشجري (نسبة لشكل الشجرة)
أو المبنين مثل خريطة ليست جديدة.
يقدم
الأدب الرقمي مع الروابط التشعبية مساحة واسعة تشعبية باعتبارها حاملات لتقاطعات تحكمها
الصدفة . ليس لدى القارئ سوى نظرة محلية للجهاز. وتسمى إمكانية الاستغلال هذه العمل
الفائق (hyperaction) الرقمي . إن هذا الأخير يكشف عن فضاء طوبولوجي (topologique) الذي يعمل على تحقيق التعايش مع الفضاء النصي في جوار
مختلف . لكن النص التشعبي ليس سوى فرع من التفاعلية . فالقارئ يهتم بردة فعل الآلة
التي تهتم من جانبها بردة فعل القارئ بإنتاجها لفعل الصدفة بالمعنى الذي حدده كورنو
Cournot: إن التقاء صدفة الجهاز مع فعل القارئ المحاور (Interlocuteur) يتولد عنه أوجه خطابية جديدة تكشف عن سيميائية الحركة وعن التحريك .
يبدو
أن البعض مترددين تجاه هذا الأدب لأنهم يرون فيه تنازلا للمؤلف عن السيطرة على نصوصه
. فيما جماعة أوليبو Oulipo على عكس ما
نفكر فيه تقدم نفسها باعتبارها جماعة معارضة للصدفة (anti-hasard)
لأن في الصدفة تعارض أوليبو ما هومحسوب .
يمكن
تعريف العشوائية الأدبية على أنها آلية (ميكانيزم ) شكلية مرتبطة بعملية واحدة خوارزمية
أو أكثر التي تهدف إلى إنتاج البيانات عن طريق تركيب بين بيانات نصية أو دون خطية
(infratextuels) . وبالتالي فإن الحاسوب يقوم برسم جمالية العابر.
إن العشوائية هي إنتاج للعمل الرقمي المبرمج والعملية الإبداعية. وبالتالي ، فإن الفرصة
في الأدب الرقمي هي الوجه الذي يأخذه العشوائي بالنسبة للمحاور. إنه يتصرف مثل حيوان
مينوتور (Minotaure ) الأسطوري ذي الجسم الآدمي ورأس الثور الذي يضعنا في المتاهات .
« Poétique du
hasard et de l’aléatoire en littérature numérique », Jean Clément.
0 التعليقات:
إرسال تعليق