تسلط
رواية تنهيدة المغربي الأخيرة لـ “سلمان رشدي” ضوءها على الواقع الهندي منذ بداية
القرن العشرين، متوغلة في الزمن؛ حتى العشر الأخير من القرن عينه، ثم ما تلبث أن
تعودَ بالقارئ إلى أزمنة غابرة في عمق التاريخ الهندي والإسباني معًا، أراد الكاتب
من خلالها، الكشف عن ثغور الحياة السياسية والاجتماعية القائمة في مراحل متباينة
من الزمن والتاريخ.
الرواية
التي استقبلتها الصحافة والجمهور بكثير من الشغف بعد صدورها في أيلول/سبتمبر 1995
أصبحت اليوم متاحة للقارئ العربي بعد أن ترجمها السوري عبد الكريم ناصيف، وأصدرتها
"دار التكوين".
لا
تختلف «تنهيدة المغربي الأخيرة» عن مجمل أعمال رشدي، لجهة الدوامة السردية التي
تمثل علامة فارقة في أسلوب صاحب «أطفال منتصف الليل»، الرواية التي قدمته إلى
العالم، وحازت على جائزة البوكر البريطانية مرتين.
في
«تنهيدة المغربي الأخيرة» يبني رشدي حبكته على ثلاثة أبعاد؛ بعدين مكانين وهما
الهند، مكان ولادة بطل الرواية وراويها موريس الزغبي، ثم إسبانيا، أرض الأجداد
المطرودين من جنة الأندلس والمكان المشتهى للتنهيدة الأخيرة وأصل كنية موريس
العائلية، فالزغبي من حيث المعنى تشير إلى الشؤم، والمقصود به هنا هو أبو عبد
الله الصغير، آخر ملوك الأندلس الذي نفيت جاريته اليهودية إلى الهند وهي حامل
وهناك امتد نسله. أما البعد الثالث فهو الزمن الذي يستعير حركة البندول صعوداً
وهبوطاً بحيث تندمج البدايات بالنهايات، دون أن يلحق بالسرد رتابة البندول المملة.
بالعودة
إلى أحداث الرواية يرجع رشدي بالزمن إلى عهد آخر حكام الأندلس العرب وتخيير اليهود
بين المسيحية والمنفى وانطلاق كولومبس لاكتشاف طريق جديد للهند. في الهند يسرد
الراوي تاريخ أجداده لأمه من جده الأكبر فرنسيسكو دي غاما، تاجر البهارات الثري،
الوطني والتقدمي، مروراً بجدته إبيفانيا التي تهمس لأمه أورورا بلعنة ستضرب ولدها
موريس الذي لم يولد بعد، في استعادة للعنة ماكوندو في مائة عام من العزلة. تبقى
أورورا الشخصية الأكثر وجوداً في الرواية إن لجهة الأحداث التي شاركت فيها أو لجهة
التطورات والتحولات المتناقضة للشخصية.
تتزوج
أورورا من اليهودي إبراهام الزغبي بعد قصة حب جامحة تحدت فيها رجال الدين ومجتمع
كوشين، ليولد بعدها موريس، لا كاثوليكياً ولا يهودياً، بل "يهوليكي"
مجهول. المفارقة "الماركيزية" -إن صحت التسمية- أن موريس ولد بعد أن
حملت به أمه أربعةَ أشهرٍ ونصف فحسب، هذا الوقت المضاعف سيرافقه طوال عمره ليبلغ
السبعين وهو ما زال في الخامسة والثلاثين. بعدها سينتقل إبراهام بالعائلة إلى
بومباي تاركاً ورائه المجتمع اليهودي في كوشين على وشك الانقراض، حيث ينخرط في
أنشطة أكثر ربحاً، منها توريد الفتيات لمواخير المدينة، تهريب الهيروين والاتجار
بالأسلحة حتى النووية منها. وإذا كان رشدي اختار هذا الدور الشرير لإبراهام فهو
يظهر بعداً مركباً جديداً عند أورورا الرسامة الفذة والأم المشوشة التي تعاني من
إحساس بالتقصير العاطفي تجاه ابنها موريس، لكنها تحسم صراعها الداخلي باختيار
الرسم فضاءً لأمومتها. هنا يدخل موريس في رسومات أمه وتحضر إسبانيا في لوحات عن
الهند حيث تنتهي سلسلة الرسومات بلوحةٍ تحمل عنوان الرواية، ويظهر فيها موريس كروح
قابعة في الجحيم.
تتوالى
فصول الأحداث بتسارع لاحقاً، مسلطة الضوء على حياة موريس في الهند وعلى حياة الهند
نفسها من احتلال البريطانيين، وانقسام المجتمع بين مؤيد ومعارض مروراً بأحزابها
وشخصياتها السياسية مثل نهرو وغاندي، وانزلاق البلاد في أتون صراعات وحروب طائفية
وعرقية. في خضم هذه الأحداث تعود أورورا للظهور بشخصية الناشطة والمناضلة المدافعة
عن حقوق الأقليات في وجه الأكثرية الهندوسية. بعد أن تقتل أمه وتخرب تجارة أبيه
وتدمر النزاعات نصف مدينة بومباي، يقرر موريس الانسحاب من الهند إلى الأندلس
مأخوذاً بحجم الدمار والبربرية، مصدقاً نبوءة أورورا في رسمه داخل الجحيم.
يعود
رشدي في الفصل الأخير ليقفل الدائرة مع الفصل الأول موازياً بين موريس وأبو عبد
الله الصغير في مصيرهما المحكوم بالمنفى، وما يلبث أن يزيد على معاناة موريس،
فتراه تائهاً بين السياح في إسبانيا كما لو أنه في إحدى متاهات دانتي المرعبة،
باحثاً عن رسومات أمه المسروقة. بحثه أوصله إلى سجن بدأ فيه بكتابة حكاية العائلة،
لتنتهي الرواية بموريس ساعياً للنوم قرب شاهدة قبر على أمل الاستيقاظ في زمن أفضل.
أخيراً، يبدو أن رشدي قد تعمّد الإيحاء في مضمون الرواية برسالة مفادها أن
لأبناء المنافي مصير واحد هو الاغتراب والبحث عن الضائع والمفقود. أما في الشكل
والبناء الروائي فإن أسلوب رشدي الذي يتوخى الفوضى في الكتابة يؤدي إلى إشكالية في
المعنى، وبالتالي الخوض في غموض مقصود، وفي نفس الوقت يطيح ببنية الرواية
الكلاسيكية. زدْ على ذلك الشخصيات الكثيرة التي تظهر وتختفي حتى في الصفحات الأخيرة،
بالإضافة إلى حشر الأسماء والرموز والأساطير ما بين دفتي الرواية. كل هذا يجعل
النص عصيّاً على الدخول في باب المتعة والدهشة الأدبية وإن ضم في طيّاته الكثير من
المفاتيح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق