حين فكرت في هذا الموضوع الطريف والمحرج، انطلقت من أن النخب المقصودة هي تلك التي لها عمق حداثي، إذ من المفروض أن هذه قادرة على قراءة ما تحتويه الغيوم المتلبدة في سماء مجتمعاتها، إذا كان منطلقها علميا وعقلانيا، خاصة وأن محيطها أصبحت تتحكم فيه نخب أخرى بثقافة سياسية وثقافية تقليدية أصولية، وهي نخب لا يمكن أن تملك تلك القدرة الاستشرافية.
غير أن قراءتنا لعلاقة المستويين، التحديثي والتقليدي، بالواقع تؤكد أنهما لم يمتلكا تلك القدرة الاستشرافية.. ولذلك حين نتأمل عموم الشروط التي اندلعت فيها شرارة حركة ما عرف بـ"الحراك العربي"، سنلاحظ، بداهة، أن المستويين معا في العالم العربي كانا غائبين حين انطلاق هذا الحراك، أولا. وأنهما فوجئا به، ثانيا. وقد التحق به منهما بعض الأعضاء كأي مشارك عاد واضطر كثير من أفرادهما إلى التواطؤ مع الأنظمة الحاكمة، ثالثا.
وأسمح لنفسي بأن أركز في هذا العرض على المستوى الأول الذي كان من الممكن أن يحول الحركة إلى حركة ثورية حقيقية.. وإذا قدرنا أن أصل ما أطلق عليه "الربيع العربي"، انطلق احتجاجا ثم تمردا ومطالبة بإسقاط رؤوس الأنظمة، فإننا أيضا نقدر بأن هذه الحركة لم تكن ثورة، خاصة وأن الثورة هي تغيير جذري لبنية المجتمع ولنظامه السياسي وتعويضه ببنية ونظام جديدين آخرين.
وقد نفى على حركة "الربيع العربي" صفة الثورية، كون النخبتين السياسية والثقافية الحداثيتين قد أخلفتا الموعد معها. وثانيا، أنها حركة انطلقت دون تخطيط تاكتيكي واستراتيجي، كان على النخبتين الغائبتين أن تقوما بهما قبل انطلاقها. وثالثا أن أية حركة ثورية لابد أن تقوم على أرضية ثقافية صلبة، تحدد وتضبط لها المفاهيم وتدرس شروط الإنجاز، لتقوم النخبة السياسية بالإنجاز والتسيير، حقا أن طليعة الحركة سواء في تونس أو في مصر أو في بلدان عربية أخرى، تشكلت من الفئات المتعلمة والمثقفة، إذ كانت وسائل التواصل التي تمكنت منها تلك الطليعة في عمق الثقافة المعرفية لكن بقي دورها تقنيا، هي الوسيلة الرئيسية للتنظيم أي للتواصل، بينما يحتاج التغيير الشامل لتهييء قبلي دقيق يحدد خطوات الإنجاز وأطراف التحالف ومدى طول نفسها، ويقوم على معرفة عميقة بالمكونات الاجتماعية والسياسية وطبيعة أبناء النخب في ذلك التحالف. والتهييء أيضا ينبغي أن ينطوي على أفق استشرافي للمستقبل.. من هذه الزواية لم تكن حركة منظمة لها قاعدة ثقافية ـ إيديولوجية تنطلق منها. الأمر الذي أصبغ عليها طابع الاحتجاجية والتلقائية، ثم بالتدريج أضحت تلتقط الشعارات المناسبة، من العدالة الاجتماعية في البداية إلى حقوق الإنسان وحرية التعبير إلى الديمقراطية الانتخابية وتوج ذلك بإسقاط النظام..
ولغياب العمق الثقافي المعرفي والإيديولوجي أيضا، لم يتم تحديد تلك المفاهيم وضبط نوعيتها، كما لم يتم التفكير الجاد في النخب المِؤهلة لممارستها، فكانت النتيجة عكسية في جل بلدان هذا "الربيع".. ولأن هذا العمق الثقافي كان ضعيفا، التحقت بالحركة نخبة أخرى كانت أكثر تنظيما وانتهازية، هي النخبة الإسلاموية الدعوية والسياسوية، فتمكنت من انتزاع الزمام من أيدي الشباب المحرك وبعض اليساريين الذين التحقوا بهم.
وبقيت النخبة السياسية الحداثية في غالبيتها مفتتة ومتضاربة في مواقفها بين التأييد والمعارضة. لتدخل نخبة أخرى على الخط،، في المجال، إلى جانب الإسلامويين، خاصة في تونس ومصر، نخبة حاسمة في انتصار الحركة، هي النخبة العسكرية. وهي مؤسسة قام عليها النظام في البلدين وشكلت أحد مكوناته، لكنها بقيت محايدة هذه المرة إلى أن بدا لها أنها قادرة على حسم التوجه الاجتماعي العام، مادام الأمر يتعلق بإسقاط الرئيس وبعض أقاربه والمقربين إليه، وليس ثورة، بل إن هذه المؤسسة كانت تنظر إلى المدى المتوسط والبعيد ربما ستؤول إليها الأمور، كما حدث في مصر. هذا التدخل العسكري لصالح الحركة هو الذي أنقذها مما تعيش فيه سوريا وأيضا ليبيا الآن، خاصة وأن انتصار الحركة على القدافي حسم فيه التدخل الخارجي، بما أن الجيش لم يكن مؤسسة قائمة بذاتها.
ولعل الفراغ، الذي تركه غياب التنظيم السياسي المخطط للثورة وغياب العمق الثقافي الضابط للمفاهيم السياسية والذي يخرجها من عمومياتها ويوجه حركية الثورة نحو أفق مدروس، كان لابد أن يمتلئ، وقد ملأته كيانات أخرى أصبحت متحكمة: الكيان الأول والوطني هو الجيش، والحركات الإسلاموية التي تمكنت من توجيه مسار الحركة، ثم القوى الخارجية من دول الخليج إلى دول الغرب على رأسها أمريكا والحلف الأطلسي. والتدخل الخارجي أيضا كان حاسما في إسقاط رؤوس الأنظمة وفي التوجيه العام للمسار.. لقد تدخلت هذه القوى الداخلية والخارجية معا لأنها أدركت أن حركة "الربيع العربي"، لم تمس الأسس الرئيسية للأنظمة سواء كانت تلك الأسس جيشا أو ثقافة تقليدية دينية معجونة رسميا ببعض التوابل الليبرالية.. حينذاك بقيت المصالح الخارجية محمية والثقافة المتحكمة في التغيير هي المناسبة للتدخل الخارجي. بل أصبحت أيدي القوى الخارجية، الجهوية والعالمية مطلوقة في مجتمعات ما بعد "الربيع العربي". ثم تم التواطؤ الضمني بين أقطاب هذا التدخل والنخب المهيمنة بعد الحراك..
أما حين نقف عند دور النخب الحداثية، الثقافية والسياسية معا، إذا انطبق عليهما هذا النعت ـ الحداثية ـ، فنؤكد على غيابهما، لأسباب نذكر منها:
أولا، انفصال النخب الثقافية عن السياسية، فتحولت الثقافة إلى اجتهاد شخصي يقوم على تعريب ما تنتجه النخب الثقافية الغربية، محتقرة الثقافة التراثية والمحلية، وأضحى بعض أعضائها يتحرك، باسم الحداثة، ضمن الإثنيات والطائفية، فتخلت الثقافة عن امتدادها الشعبي، يساعدها على ذلك تقلص محافل التلقي.. وبقيت النخبة السياسية دون تجدد دمائها الأساسية بقطعها حبل الصرة بينها وبين النخب الثقافية..
ثانيا، لم تهتم هذه النخبة الثقافية كثيرا بالأمر، فتحركت كأفراد، بعضهم يؤيد الحركة وبعضهم ضدها.. فغاب أي دور قيادي للنخبة الثقافية الحداثية في "الربيع العربي".
ثالثا، لم يعد الهم الوطني والشعبي والمجتمعي يهم كثيرا أبناء هذه النخبة، وبالذات لأنهم انغمسوا في ما تفرضه العولمة من التكالب على خدمة المصالح الشخصية ومهادنة القوى المهيمنة..
ثم رابعا، كانت النخبة السياسية قد عمقت انفصالها، ومازالت، عن قاعدتها التقليدية، أي عما عرف بالجماهير الشعبية، وأهملت دورها التأطيري للمواطن وهو ما استغلته النخب التقليدية اليمينية باسم الدين، بل إن تلك النخب فضلت التعامل مع الأنظمة السائدة عبر بعض فجوات الديمقراطية الانتخابية التي تسمح بها تلك الأنظمة للتحكم في المجال، فأضحت نخبا مساهمة في الفساد والإفساد، حينذاك ضاقت مساحات فعلها التأطيري.
وخامسا، اختلاط الأوراق السياسية، فأصبحت شعارات النخب في الأحزاب التاريخية، التي راكمت تجاربها النضالية عبر صراع مرير عانت فيه من كل صنوف القمع وتمكنت من فرض حلقات أولى في المسلسل الديمقراطي، أصبحت تلك الشعارات تكررها وتدعوا إليها أيضا النخب السياسية الدائرة في فلك الأنظمة، فانتفى التميز.
وسادسا، غياب التجديد سواء في نخب التسيير التي بقيت دائما تقليدية شائخة، أو في ثقافتها السياسية، ولم تستطع إنتاج تصورات مناسبة لها في مواجهة جل مكونات العولمة، وأيضا التنظيمات الإسلاموية على مستوى الاجتماعي والدعوي والتنظيمي..
ثم سابعا، أنها نخب مازالت، رغم دفاعها المستميت عن الديمقراطية، تفصَل الديمقراطية على مقاسات بعض الأشخاص المتنفذين، فتكون بعيدة عن الصورة الحقيقية للديمقراطية التي تطالب بها.. فيتم حل الاختلافات الداخلية بالصراعات المدمنة أو بالانشطارات..
وثامنا، هي نخب لم تعد تسهم في بناء مجتمع مدني له استقلاليته وفي نفس الوقت يشكل جسورا بينها وبين المجتمع، ولم تعد قادرة على الخطاب الصدامي المستند إلى برنامج واضح ودقيق تدافع عنه وتعمل على تطبيقه، بل حين تشارك في الحكم تساير باقي الأحزاب في ارتجالية وتقنوية تدبير الشأن العام.
تاسعا، أنتج غياب النخبتين السياسية والثقافية عن عمق تنظيم مسار التحولات السياسية التي عرفتها المنطقة العربية، انتكاسة يمينية سلفية طائفية بهوامش إرهابية..
غير أن كل تلك السلبيات التي أشرت إليها يمكن تجاوزها إذا قامت هذه النخبة بالعمل على استرجاع دورها التاريخي:
أولا، باستدراك الأمر على المدى البعيد إذا ساهمت في كشف عجز النخب الإسلاموية في تدبير الشأن العام وفي تبعيتها للدوائر المالية والسياسية العالمية والجهوية.. واستطاعت أن تبلور أفقا تدبيريا أفضل، وتمكنت من أن تعقلن تحولاتها وتجديد مكوناتها . وهو ما تحاول أن تقوم بها النخبة السياسية في تونس، نتمنى أن تلتحق بها النخبة الثقافية بمراجعة دورها بتحويل تغيير الواقع إلى ثورة حقيقية بالتنظير لها.
ثانيا، لابد من تجاوز التركة الحالية بالانخراط في تجديد الفكر السياسي المناسب للواقع، ومن إعادة الارتباط بالشعب عبر رؤية جديدة، وإعادة التنظيم القائم على الديمقراطية والنخب الجديدة.
ثالثا، مراجعة مسارها الثقافي بتعميق العودة إلى التراث الوطني والجهوي، كما فعلت النخب المثقفة مثلا في أمريكا اللاتينية منذ عقود فتمكنت من التميز في فكرها وإبداعها وفي ثوراتها..
رابعا، الخروج من زنزانة المهادنة للقوى الظلامية اليمينية ولفلول النظام القديم، قصد مواجهة الفساد والإفساد بصرامة، والخروج من عنبر الصمت عما يجري في المنطقة من تدمير باسم الدين وفضح مشجعيه ومموليه إلى أن يتسرطن، فمن المعروف أن جزءا كبيرا من الحركات الإرهابية بما فيه ما عرف بـ"داعش" وجبهة "النصرة"، في العراق والشام، أسستها تمويلات بعض بلدان الخليج بمباركة الغرب وخاصة أمريكا.
خامسا، لابد لهذه النخب الثقافية كما السياسية، أن تجتهد حتى في المجال الديني برؤية عقلانية تنويرية لفضح استغلال الدين الذي تقوم به الحركات الإسلاموية، إلى جانب تعميق التفكير في المجال السياسي مع توسيع التحالفات بين نخب متقاربة في الرؤيات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق