كَشف التّاريخ عن معضلة المثّقف أو المفكّر وأساليب انسجامه مع السّلطة أو تصدّيه لها وفق النّسق الثقافيّ الذي تواجد فيه المثقّف أو المفكّر على مرّ المراحل التاريخيّة والأزمات التي واجهتها المجتمعات. تعود المعضلة في الأساس إلى طبيعة الخصوصيّة الدكتاتوريّة العربيّة المتمثّلة في أشكال قمع الحاكم للمثّقف بقتله أو حبسه او عزله، او احتوائه بتنصيبه في بلاطه، وإلى ممارسات المثقّف او الفيلسوف او المفكّر التي انحصرت في خط التّماس بين التواطؤ مع الحكام وبين الانتصار للعامة وقضاياهم في اللحظات التاريخية المفصلية.
لم يتغيّر الكثير في هذه الجدليّة، جدليّة القلم والسّيف، ولم يتغيّر الكثير في ممارسات الارهاب الفكريّ وحيويّته في مجتمعاتنا. ولم تمر مجتمعاتنا براهن تكعيبيّ جديد يحيد عن دائرية التاريخ وتكعيبيّته من انتهاكات لحقوق الأفراد، وغزو أجنبي وتواطؤ نخبٍ سياسية وثقافيّة بصمتٍ. فقد غيّر كلّ ذلك، كعادته، في البنية النفسيّة والفكريّة للانسان العربيّ وموقفه السورياليّ حيال مصيره. ولعلّ أكبر أثرٍ خلّفته أحداث الأعوام الأخيرة، هو الكشف عن القطيعة وعن الهوّة الكبيرة الحاصلة بين تواصل المثقّف او المفكّر مع الحشود التي حرّكت هذه الثورات أو شاركت فيها. أثبتت هذه الهوّة فشلاً عميقًا متجذّرًا في العلاقة بين الاثنين، وعمّقت من عمليّة اقصاء المثقّف وتهميش دوره التوعويّ، مرسّخةً مبدأ الانتصار لثقافة الحشود، لا ثقافة النخبة. ما يمكن قوله، للمتتبع لما يحصل اليوم، أنّ المثقّف صار أكثر خصاءً، وأكثر جبنًا، وأقلّ مغامرةً، فاقدًا لفاعليّته ومسؤوليّته ودوره التوعويّ في ظلّ ثقافة الأزمة وواقع الأزمة. صحيح أنّ الثّورات كانت صنيعة غربيّة امبرياليّة، لكنّها من طرف آخر، ثورات أفرزتها مآزق الثقافة العربيّة الراهنة المأزومة، وهي ثقافة أثبتت لاعقلانيّتها، وجنوحها الى العاطفيّ والشعاراتيّ المنهجيّين في مواجهة التحوّلات مخلّفةً العقل والمعرفة من وراءها. لقد ولّدت هذه الثقافة، واقعًا راهنًا يحبلُ بثورات مجهضة، تفتقر الى منهجيّة فكريّة، وتشبه ازدحام سيارات في شارع ضيّق.
في مشهدٍ تاريخيّ يرويه ابن خلدون، يقبّل العالِم الجليل يدَ الزعيم تيمورلنك تجنّبًا للهلاك، وكان هذا شكلا من أِشكال التواطؤ النّاعم مع صاحب السّيف. لا يمكننا أن نجزم بشكلٍ واضحٍ ما هو الدّافع من وراء هذا التواطؤ، أهوَ تواطؤٌ حبًا للمحتلّ أم هو تواطؤ حسن التخلّص.
في مشهدٍ آخر يرويه ابن خلدون، يُعجَب تيمورلنك ببغلة العالِم ويقرر شراءها منه. يكشف تيمورلنك بعمله هذا عن عقدة صاحب السّيف من صاحب القلم. ولعلّ هذا يحيلُنا الى التأويل الحتميّ بمعرفة صاحب السّيف في قرارته أنّ امتلاك عقل المثقّف أمرًا مستحيلاً، فليملُك على الأقل بغلته. المقصود من وراء التمثيل بهذه الحادثة، أن جدليّة القلم والسّيف، تنتصر فكريًا للمثقّف من جهة، وتبيّن تواطأً مبررا أو غير مبرر من جهة أخرى. فماذا يفعل المثقّف الراهن في اللحظات الحرجة التي تمرّ بها مجتمعات بحالها؟
في ظلّ هذه المستجدّات في المنطقة العربيّة، وفي فضاء تلتبسُ فيه التعريفات، ويلتبس فيه تعريف دور المثّقف، ثمّة قطيعة واجبة الحصول مع هذا الراهن لبناء مفهوم جديد للمثّقف ودوره، ولإعادة بناء مفاهيم جديدة للدور التوعويّ الذي تقوم به هذه النخب الثقافيّة في المجتمعات المدنيّة.
حينَ نتكلّم عن الارهاب الفكريّ في المجتمعات الشرقيّة، والعربيّة تحديدًا، فإننا أمام خصوصيّة يُنتِجها تراكمٌ تاريخيّ ويعيدُ إنتاجها كلّ مرة بطريقة تتماشى مع مصالح الأقوى. وقد اختار المثقّف دائمًا ثلاثة مسارات تحاشيًا لهذا الارهاب: إما التواطؤ المعلَن مع الدّولة أو الامبرياليّة، وإمّا التواطؤ النّاعم عبر النّقد وإبداء الموقف داخل أطر مؤسساتيّة وأكاديميّة ومؤتمرات دوليّة مموّلة، وإمّا الصّمت المُطلَق والانزواء. وفي هذه المسارات الثلاثة فَقَد المثقّف العربيّ مصداقيّته وتهاوت ممارسته التجريبيّة لطروحاته النّظريّة على أرض الواقع.
مثل هذه الانعطافات الحادّة والهزّات الأرضيّة باتت ضروريّة وحاسمة لتوليد فكر جديد ودور جديد للمثقّف داخل مجتمعه، إنّها تجارب تفتحنا على عالمٍ جديد من التّفسير ومن الاحتمالات يعود فيها المثقّف الى حساب مع الذّات ومحيطها، ويعيد بناء تلك العلاقة المتخلخلة بينه وبين الجماهير التي فقدت ثقتها فيه وتصرّفت من ذاتها. المثقّف يحمل لقبًا فوقيًا، وهذا اللقب لا يحرمه من الصّمت الطّويل ومن المحايدة. وحدهم المثقّفون من سيؤسسون لمفاهيم جديدة تمارسها الحشود على أساس وثيقة الصدق والولاء بين الطرفين، ووحده المثقّف من سينجح في قراءة الواقع الرّاهن ومجرياته والتأسيس لحلول مستقبليّة بعيدًا عن التخشّب الايديولوجيّ والتواطؤ النّاعم، فبغلةُ صاحب القلم تظلّ أقوى من يد صاحب السّيف.
0 التعليقات:
إرسال تعليق