الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 27، 2024

ترجمة الأدب العربي بين الحفاظ على الجوهر الثقافي والبحث عن العالمية: عبده حقي


إن ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى ليست مجرد تمرين لغوي؛ بل هو جسر ثقافي يربط التراث الأدبي الغني للعالم العربي بجمهور عالمي. ومع ذلك، فإن هذه المهمة محفوفة بالتحديات التي تنبع من الحاجة إلى الحفاظ على الجوهر الثقافي للنص الأصلي مع جعله في متناول القراء الذين قد لا يتقاسمون نفس الخلفية الثقافية. ويتطلب هذا التوازن الدقيق ليس فقط الخبرة اللغوية ولكن أيضًا فهمًا عميقًا للسياقات الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي ينبثق منها الأدب.

يمتد تاريخ الأدب العربي لأكثر من ألف عام، ويشمل مجموعة واسعة من الأجناس الأدبية، بما في ذلك الشعر والنثر والنصوص الدينية والأطروحات الفلسفية. ومن الأعمال الكلاسيكية لشعراء ما قبل الإسلام مثل امرئ القيس إلى الروايات والدواوين الحديثة ، يقدم الأدب العربي نافذة فريدة على الحياة الثقافية والروحية والفكرية في العالم العربي. وتكمن جمالية هذا الأدب في استخدامه للغة والرمزية والاستعارات، والتي غالبًا ما تحمل أهمية ثقافية عميقة. ومع ذلك، فإن هذا الثراء يشكل تحديًا كبيرًا للمترجمين الذين يجب أن ينقلوا ليس فقط المعنى الحرفي للكلمات ولكن أيضًا رنينها الثقافي.

إن ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى لا تقتصر على إيجاد كلمات مكافئة في اللغة المستهدفة، بل إنها تتطلب استيعاب الفروق الثقافية والإشارات التاريخية والعمق العاطفي للنص الأصلي. على سبيل المثال، غالبًا ما يتخلل الشعر العربي إشارات إلى الصحراء والحياة البدوية والروحانية الإسلامية، وكلها تحمل دلالات ثقافية محددة. قد تنقل الترجمة الحرفية المعنى السطحي للكلمات، ولكن بدون فهم هذه الإشارات الثقافية، قد يفقد النص المترجم عمقه وأهميته.

فضلاً عن ذلك، فإن اللغة العربية لغة غنية بالتعبيرات الاصطلاحية والأمثال والاستعارات التي تضرب بجذورها عميقاً في السياق الثقافي. ويتعين على المترجمين أن يقرروا ما إذا كانوا سيحتفظون بهذه العناصر في شكلها الأصلي، الأمر الذي قد يربك القراء غير المألوفين بالثقافة، أو أن يعدلوها لجعلها أكثر سهولة في الوصول إليها. وتشكل عملية اتخاذ القرار هذه جوهر التحدي الذي تواجهه الترجمة الثقافية.

ومن ثم، فإن مترجم الأدب العربي يلعب دوراً حاسماً كوسيط ثقافي. ويتعين عليه أن يتنقل بين الخط الرفيع الفاصل بين الإخلاص للنص الأصلي والحاجة إلى جعل العمل في متناول الجمهور العالمي. وهذا لا يتطلب فقط إتقان كل من اللغتين المصدر والهدف، بل يتطلب أيضاً فهماً عميقاً للسياقات الثقافية لكل منهما. والترجمة الناجعة هي تلك التي تحافظ على الجوهر الثقافي للعمل الأصلي مع جعله يتردد صداه لدى القراء في سياق ثقافي مختلف.

إن أحد الأساليب لتحقيق هذا التوازن هو توفير حواشي ثقافية أو تفسيرات تساعد القراء على فهم الإشارات الثقافية في النص. وإذا كان هذا من شأنه أن يعزز فهم القارئ، فإنه ينطوي أيضاً على خطر تعطيل تدفق السرد. وهناك منهج آخر يتلخص في تكييف الإشارات الثقافية مع إشارات أكثر شيوعاً في اللغة المستهدفة، ولكن هذا من شأنه أن يخفف من الخصوصية الثقافية للعمل الأصلي.

إن الحفاظ على الجوهر الثقافي للأدب العربي في الترجمة أمر حيوي لأنه يسمح للجمهور العالمي بالتفاعل مع النص بطريقة تحترم أصوله وتعترف بها. الأدب هو انعكاس للمجتمع الذي نشأ منه، وتجريده من سياقه الثقافي هو سلب له روحه. على سبيل المثال، أعمال محمود درويش، الشاعر الفلسطيني المتألق، متجذرة بعمق في التجربة الفلسطينية والنضال العربي الأوسع من أجل الهوية والحرية. إن ترجمة شعره دون نقل السياق الثقافي والسياسي الذي كتب فيه من شأنه أن يقلل من قوته وأهميته.

وعلى نحو مماثل، فإن الأدب العربي الكلاسيكي في العصر العباسي، مثل أعمال المتنبي أو الجاحظ، غارق في البيئة الثقافية والفلسفية والفكرية السائدة في ذلك الوقت. والترجمة التي تفشل في التقاط هذه الأبعاد الثقافية لن تنصف النص الأصلي.

ورغم أن الحفاظ على الجوهر الثقافي للأدب العربي أمر بالغ الأهمية، فمن الأهمية بمكان أيضاً جعله في متناول الجمهور العالمي. وهذا لا يعني فقط ترجمة النص إلى لغة أخرى، بل وأيضاً جعله يلقى صدى لدى القراء الذين قد لا يشاركونهم الخلفية الثقافية نفسها. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على المترجمين إيجاد طرق إبداعية لنقل الفروق الثقافية الدقيقة للنص الأصلي دون تنفير القارئ.

ومن بين الطرق التي يمكن بها تحقيق هذا الهدف استخدام القياسات الثقافية التي يمكن أن تساعد في سد الفجوة بين الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، يمكن تكييف الاستعارة التي تضرب بجذورها عميقاً في الثقافة العربية مع استعارة أكثر اعترافاً بها عالمياً والتي تنقل معنى مماثلاً. ويسمح هذا النهج للمترجم بالاحتفاظ بجوهر النص الأصلي مع جعله أكثر سهولة في الوصول إليه بالنسبة للقارئ.

إن ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى مهمة معقدة ودقيقة تتطلب تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على الثقافة وإمكانية الوصول إليها. وفي حين أنه من المهم جعل الأدب العربي في متناول الجمهور العالمي، فإن هذا لا ينبغي أن يأتي على حساب جوهره الثقافي. يجب على المترجمين أن يعملوا كوسطاء ثقافيين، ويضمنوا الحفاظ على ثراء وعمق الأدب العربي في الترجمة مع جعله يتردد صداه لدى القراء من خلفيات ثقافية مختلفة. وبذلك، يساعدون في تعزيز فهم وتقدير أعمق للتراث الأدبي في العالم العربي، مما يساهم في خلق مشهد أدبي عالمي أكثر تنوعًا وترابطًا.

0 التعليقات: