الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 16، 2024

"في قبضة شباك العشق" نص مفتوح : عبده حقي


في الساعات الغامضة بين منتصف الليل والصباح، تحمل الرياح همسات الإخلاص بينكما. عاشقان، يقفان وجهان متخفيان خلف ستار الشفيف، ظهرًا لظهر، ليصدا أعداء مقنعين. ليس حبهما عاطفيًا بل رابطًا تم تشكيله في الأبدية، يدور من خلالهما مثل خيوط الحرير. يركع الوقت، وينطوي إلى الداخل كما لو كان يسحبه يد محرك الدمى. كل لفتة، بمثابة عهد سري، يتأخر أكثر من اللازم. تتحرر اليدين، المتشابكتين لفترة وجيزة، دون خوف أو توجس، لأن قبضة الثقة تظل قائمة. تتردد خطواتهما على مسار لا نهاية له - في مكان ما بين الهنا وأماكن أخرى، بين الضوء وظله الشاحب. ترتفع العاصفة، لكنهما لا يترددان. يمشيان عبرها مثل الأشباح نفسها، تسترشدان بنجوم غير مرئية. في لحظاتهما الهادئة، ينكمش العالم إلى حجم سر - ابتسامة متبادلة، ووعد يعلق في الهواء مثل رائحة حقل الخزامى البعيد.

تسمع صوت الريح وهي تعزف كمانها في أنفاسك، وفي أصابعك. لا وقت للحديث. الجثة في مكان آخر، في أشلاء متناثرة فوق التل. لا يهم. خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء، همس الساعة. تبدأ الرقصة. سكين في يد، والحب في اليد الأخرى. أيهما يقطع بشكل أعمق؟

القمر عدو جميل، يختبئ خلف السحب، وراء الضحكات، وراء شيء لا نستطيع تسميته. هناك شرارة، قصيرة، قاسية، تتلاشى. تتبعها. تتبع ضحك رجل عجوز يحمل حبلًا مجدولا من الأيدي والقلوب والأوهام. يربطك به - لا، بل أنت تربط نفسك. العقدة محكمة. لا يمكن فكها. يضحك مرة أخرى، بصوت أعلى. تسمع طائرًا، لكنه ليس طائرًا. تغني الريح من خلال منقاره، وتخبرك أنك مشيت في هذا الطريق من قبل. لكن هذه المرة، تبدو حجارة الطريق مختلفة. تغرق تحت قدميك. تتثاءب الأرض وتقدم نفسك. إنهم يفعلون ذلك أيضًا. أنت لست وحدك. هناك ظل بجانبك، وميض من حولك . تشتد العاصفة فوقك، ويلمس إصبع كتفك، ويختفي كل شيء في دوامة من الألوان التي لم ترها من قبل، ولغة لا يمكنك التحدث بها. لكنك تفهم. وهذا يكفي.

في اللحظة التي تسبق الرعد مباشرة، تمتد يد إلى الفراغ. إنها يدك، ولكنها ليست لك. يطن الهواء، مشدودًا، مثل خيط ينتظر أن يُنتزع. تشعر به في النخاع، في دقات ساعة سائلة. الحب كلمة سخيفة هنا، ومع ذلك فهي باقية. تطن مع الهواء، مع الطقطقة التي تسبق العاصفة. يلتقي عاشقان تحت شجرة لم تكن موجودة قبل اليوم. وجوههما ضبابية وغير واضحة، لكن أشكالهما مألوفة، بل ومريحة حتى. يتحدثان بلغة تبدو وكأنها الريح عبر صفير القصب. يتحركان بطرق تتحدى الجاذبية، ينزلقان في الهواء مثل الأوراق، ينحنيان دون أن ينكسرا، يسقطان دون أن يهبطا. في مكان ما في المسافة، يدق جرس ما. لقد حان الوقت. ولكن لماذا؟ يمد العاشقان أيديهما إلى بعضهما البعض، والفضاء بينهما ملتوٍ مثل مرآة مغموسة في الماء. تمتد اليد وتمتد وتصبح خيطًا ينسج بينهما، حولهما، خيطًا من الوعود. خيط من لحظات ملغزة. إنه يربط، غير قابل للكسر، لكنه ناعم. إنه يمسك، لكنه لا يخنق. السماء فوق تموجات، والغيوم تتباعد. ينسكب الضوء، لكنه ليس ضوء الشمس. إنه شيء آخر، شيء أكثر برودة، وأقدم من أي كثلة ثلج . كان هناك دائمًا، ينتظر وهي تنظر إلى الأعلى. الصمت بينهما ثقيل بأشياء لم تُقال، أشياء غير ضرورية. تلتقط الرياح، تتلاعب ملابسهما، شعرهما، أفكارهما. يبتسمان، أو ربما لا يبتسمان. لا يهم. الخيط متماسك. تسقط قطرة مطر، ثم أخرى، ثم ألف ، ثم وابل ويغرق العالم في الصوت، في الضوضاء، في الفوضى. يختفيان فيه. لكن الخيط يبقى. في مكان ما، في المسافة، تسمع صوت الأجنحة. أو ربما يكون المطر فقط. تظهر شخصيتهما، مختلفتان الآن، لكنها هما نفسهما. يسيران جنبًا إلى جنب، مرتبطين بشيء لا يمكن حتى للوقت أن يلمسه. الطريق يمتد أمامهما بلا نهاية، ولا يحتاجان إلى معرفة إلى أين يقودهما.

تنقسم اللحظة، وتنكسر في ألف اتجاه. كائنان، عينان، لا أكثر. تفتح السماء فمها، تتثاءب في صمت. تزهر شجرة من مركز الأرض، جذورها سوداء، وأوراقها بيضاء، كل منها يرتجف مثل سطح بركة متماوجة. وهما يتحركان ، لكن الأرض لا تتحرك. ينتظران. ينتظران. شيء هائل يتكشف، جناح، يد، ساعة رملية مقلوبة. لا رمل. لا غبار. الوقت نفسه ينسكب من فمها. العاشقان لا رمشان. ليس لديهما رموش للرمش. فقط الشعور. إنهم يمسكان بعضهما البعض من المرفقين، لا، الكتفين، لا. الهواء يحملهما. يربط خيط أقدامهما، ويسحبهما في دوامة. تشعر بالسحب ولكن لا يمكنك متابعته. تدور الدوامة بشكل أسرع. تصرخ الرياح من خلال الشقوق في الواقع، لكن العاشقان هادئان. تشكل أفواههما كلمات، غير مرئية وغير مسموعة. تختفي. يبقى الخيط.

السماء قبضة مطبقة على الأرض. عاشقان منحنيان لكنهما غير منكسرين يرتفعان عبر الضباب. تراهما، لكنهما لا يريانك. لا يريان سوى الطريق، الطريق الطويل الذي يتلوى تحت أقدامهما مثل ثعبان. الحب، نعم، لكنه حب ثقيل للغاية لا يمكن وصفه بالكلمات. إنه يثقل في اليدين، في القلب، في العينين اللتين لا تلتقيان أبدًا. تسمع صوت الصمت بينهما. إنه أعلى من أي شيء آخر. خطواتهما متطابقة، لكن أحدهما يتخلف عن الآخر، منتظرًا، منتظرًا دائمًا. لا نهاية لهذه الرحلة، مجرد حركة، إلى الأمام، إلى الأمام دائمًا. تضحية، كما قد تعتقد. لكن لا، الأمر أكثر من ذلك. إنه قبول لما لا يمكن الحديث عنه. لا يتردد العاشقان. يسيران عبر الوادي، بلا خوف، متشابكي الأيدي ولكن ليس. ينحني العالم حولهما، لكنهما يظلان.

همسة في الظلام. خيط مشدود بإحكام. عاشقان، بلا وجه ولا اسم، لكنهما معروفان. يمشيان مثل راقصين في حلم، خطواتهما غير متزامنة ولكنهما يلتقيان دائمًا في مركز الحلبة. والسماء فوقهما تومض، ليس بالنجوم ولكن بشيء آخر غير محدد سلفا، شيء. يمدان يديهما إليه، لكنما لا تلمسانه أبدًا. إنه ليس من المفترض أن يُلمس. إنهما يعرفان هذا. أنت تعرف هذا. الطريق تحتهما متعرج مثل لاكوندا، ملتف على نفسه. يتبعانه، ليس لأنهما يريدان ذلك، ولكن لأنهما لا يملكان أكثر من خيار. يرطن الهواء بكلمات لم تُقال، بثِقَل ما كان يمكن أن يحدث. لا يتحدثان، لكن صمتهما يقول ما يكفي. تشعر به في صدرك، في الفراغ بين ضلوعك. إنه يتأخر هناك، مثل سؤال لا يمكنك الإجابة عليه.

يمتد الليل أمامنا، واسعًا مثل نفس حبسناه لفترة طويلة. نسير فيه، ليس نحو أي اتجاه، بل بعيدًا عن كل شيء آخر. تلمس أيدينا، مرة، مرتين، لكنها لا تتمسك أبدًا. أعتقد أنه يكفي أن نعرف أنك هناك، قريبًا بما يكفي للشعور دون لمس. تتحرك السماء فوقنا، تتكشف النجوم ببطء وبشكل متعمد. تحترق، لكن ليس من أجلنا. نتحرك عبر الصمت، عبر ثقل كل شيء لم نقوله. يوجد نهر في مكان ما في المسافة، أو ربما يكون مجرد صوت خطواتنا. لا أستطيع أن أقول. لا يهم. الطريق أمامنا لا نهاية له، متعرجًا مثل الخطوط على راحة أيدينا. نتبعه، على الرغم من أننا نعلم أنه لا يقود إلى أي مكان. في الهدوء، أتوجه إليك، لكن وجهك يتلاشى بالفعل، ويتلاشى في الليل. أمد يدي إليك، لكن يدي تخرج بلقاء وفارغة. ومع ذلك، أستمر في المشي.

نقف على حافة شيء شاسع، شيء لا يمكن معرفته. تومض السماء فوقنا، كشريط سينمائي متشظي من النجوم. تلتفت نحوي، لكن وجهك ضبابي، به لطخة خلاسية من الضوء والظل. أمد يدي نحوك، لكن يدي تمر عبر الهواء. لا يوجد وزن هنا، ولا مادة. فقط السحب اللامتناهي للطريق تحت أقدامنا، وطنين شيء قديم في الهواء. نسير، ليس معًا ولكن ليس منفصلين أيضًا. تتردد خطواتنا في الفضاء بيننا، إيقاع لا يتزامن أبدًا. تلقي نظرة علي، لكنك حتما ستراني قد ذهبت بالفعل.

لنعد إلى فكرة الجسدين. ولكن ليس الجسدين حقًا. مجرد فكرة الجسدين. مثل الظلال التي تلقيها الأشياء التي لا يمكنك رؤيتها. إنها تتحرك. ولكن ليس حقًا. إنها أشبه بحركة شيء مجهول وحديث الخلق، شيء ثقيل وصامت. تحاول أن تنظر عن كثب، لكن الحواف تتلاشى. هذا ليس مهمًا. الشيء المهم هو المساحة بينهما. إنها شاسعة. وصغيرة. كلاهما في نفس الوقت. نوع المساحة التي تجعلك تتساءل عما إذا كنت قد ذهبت إلى أي مكان على الإطلاق. إنهما يسيران، هذه الأجسام، هذه الأجسام غير الحية، على طريق متعرج ومتعرج، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان حقًا. أنت تعرف نوع الطريق الذي أعنيه. الطريق الذي يبدو مألوفًا دائمًا، هو طريق العشق الحقيقي.

0 التعليقات: