الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أكتوبر 16، 2024

رفاق أسرى لإخفاقاتهم : عبده حقي

 


أقف في غرفة تنهار فيها الحيطان، وتتحول إلى غيوم من ورق، ويفوح الهواء برائحة الضحك للأحلام المحطمة. أعداء ليسوا بشرًا، بل هم أشبه بالظلال التي تلتهم الضوء قبل أن يلتقطه الفجر. يحومون بلا وجوه، ويشعر بوجودهم في المرايا المتشققة، وفي الشقوق الصامتة لطموحاتنا. يهمسون بلغات لا أتحدثها، لكنني أشعر بمقاطعهم مثل الزجاج المكسور تحت قدمي، غير مرئيين ولكنهم حادون بما يكفي للنزيف.

إنهم يلوون التقويم، فيسرعون الأيام، ويبطئون الليالي، ويجعلون الوقت مثل قرع طبول مشوه داخل رأسي. كل دقّة نقر تذكرني بالطريق الذي لم أسلكه. هؤلاء الأعداء ـ عديمو ينتظرون عند كل منعطف، وأيديهم غير مرئية ولكنها حاضرة على الدوام، تسحب خيوط الدمية التي أصبحتها. إنهم ليسوا بشرًا، كلا ـ إنهم أقفاص الرغبة المتشققة ذاتها، كما تتفكك الفكرة عندما تمسك بها، وتذوب في الهواء.

تتغذى هذه الظلال على التردد، وتبتلع الشك، وتلف أصابعها حول كاحلي مثل جذور الأشجار الميتة، وتسحبني إلى تربة الجمود. إنها ترتدي أقنعة الألفة - ابتسامات الأصدقاء، ووجوه العشاق، ترتدي هذه الأقنعة وهي تتغذى على لب كل حلم، وكل أمل جامح. لكنها ليست أشخاصًا حقيقيين. لا. هؤلاء الأعداء هم أفكار تتنفس، ومشاعر تتشكل دون جسد. لا وجود لهم، إلا في الأماكن بين الخيارات. إنهم يزدهرون على المترددين، والحذرين، والخائفين من الخسارة ولكنهم أكثر رعبًا من الفوز.

أقف في هذه الغرفة حيث تحولت الجدران إلى غيوم، لكن الغيوم تغرق، والفراغ الذي لا ضوء فيه يبتلعني . تنتصر الغيوم، وأختفي.

أتحدث بالألغاز لأتغلب على الأعداء الذين يختبئون في زوايا أحلامي غير المعلنة. السماء مثقلة بالأسئلة التي لم أجد لها إجابة، وكل سحابة هي جزء من طموح منسي. يضحكون في الفجوات بين الكلمات، ويسرقون المعنى قبل أن أتمكن من تعليقه على حبل منشوراتي.

إنهم يجلسون في المقاهي، ويرتشفون القهوة السوداء من أكواب لا يبدو أنها تفرغ أبدًا. إنهم يقرأون الصحف المليئة بقصص عن التوهج، والتوهج القريب، والتوهج البعيد. إن عيونهم عبارة عن مرايا تعكس فشلي، مشوهة إلى محاكاة ساخرة غريبة لما تخيلت ذات يوم أن التوهج قد يبدو عليه.

أركض في شوارع ملتوية كالأفاعي، باحثاً عن مخرج، لكن كل باب أفتحه يقودني إلى نفس الغرفة، نفس الوجوه. أتجادل معهم، هؤلاء الأعداء، لكن منطقهم زلق، وأسبابهم أكثر تشابكاً من شوارع المدينة في منتصف الليل. يتحدثون عن البراجماتية، عن أهداف واقعية، لكنني أرى قضبان القفص الذي يبنونه، بحيل تلو الأخرى.

تمتزج أصواتهم مع همهمة حركة المرور، وحفيف أوراق الشجر، وعويل صفارة الإنذار البعيدة. كل هذا أصبح الآن ضجيجًا واحدًا يملأ أذني، ويغرق الصمت حيث قد تنمو أفكاري. أضغط بيدي على أذني، لكنه لا يتوقف. لا يتوقف أبدًا.

إنهم يتسللون بلا وجوه عبر نوافذ العقل المكسورة، ويتحول الدخان إلى أشكال مستحيلة، أشكال ليس لها أصل ولا وجهة. إنهم أعداء التوهج، لكنهم ليسوا رجالاً، ولا نساء، ولا مخلوقات على الإطلاق. إنهم غبار في أشعة الشمس، يطفون داخل وخارج التركيز، ويشكلون ظلالاً حيث لا ينبغي أن يكون هناك أي ظلال.

حلمت بأبواب بلا مفاتيح، وبطرق لا تنتهي أبدًا. أعداء التوهج ليس لديهم وجوه ولا أسماء. إنهم الصمت بين الأفكار، والظلال التي تمتد أطول من الليل. أشعر بهم في اللحظات الهادئة، في المساحات التي نما فيها الأمل ذات يوم. يهمسون في الريح، في حفيف الأوراق الميتة، في همهمة البحر.

أقول لنفسي إنهم ليسوا حقيقيين، ولكنني أشعر بوجودهم في كل تردد، وفي كل خطوة لا أخطوها. إنهم يحيطون بي كالدخان، غير مرئيين ولكنهم خانقون. أحاول المضي قدمًا، ولكن الأرض تتحرك تحت قدمي، وتتحول إلى هواء، وتصبح لا شيء على الإطلاق.

أمد يدي نحو شيء صلب، لكن يداي لا تمسك إلا بالسماء الفارغة. إنها هناك، بعيدة عن متناول يدي، تراقبني دائمًا وتنتظرني دائمًا. وأنا؟ لقد ضاعت في الفراغات بينهما.

هناك باب في مكان ما، لكنه ليس من المفترض أن يُفتح. أسمع صريره في الليل، أعداء التوهج على الجانب الآخر، يهمسون بلغات كنت أعرفها ذات يوم لكنني نسيتها. أحاول أن أتذكر وجوههم، لكنها غير واضحة، مثل حواف حلم تتلاشى عندما تستيقظ. إنهم يرتدون أقنعة العقل والعملية، لكنني أعلم أنهم تحتها وحوش مصنوعة من الشك والخوف والتردد.

أسير في مدينة تدور حول نفسها، وتتحرك المباني، وتنطوي الشوارع إلى الداخل. كل خطوة أخطوها تقودني إلى أبعد من المكان الذي أريد أن أكون فيه. السماء فوقي ليست زرقاء، بل حمراء، تنزف في السحب، والأرض ليست صلبة، بل سائلة، تتدفق تحت قدمي.

أمرّ على أشخاص أو كائنات تشبه البشر، عيونهم فارغة، أفواههم تتحرك ولكن لا يصدر منهم أي صوت. هم أيضًا ضائعون، محاصرون في هذه المتاهة التي صنعوها بأنفسهم، أسرى إخفاقاتهم. أحاول التحدث إليهم، لكن الكلمات تخرج خاطئة، ملتوية، غريبة. الأعداء قريبون الآن، أستطيع أن أشعر بهم، أنفاسهم ساخنة على رقبتي.

أركض، لكن الأرض تنهار تحت قدمي، وأسقط، ليس على الأرض، بل على جانبي، في فراغ لا نهاية له. يضحك الأعداء، وأصواتهم عالية وحادة، مثل الزجاج المكسور. أحاول الصراخ، لكن لا صوت يخرج. أشعر بالضياع، وهم دائمًا يتقدمون بخطوة واحدة.

هناك صمت كثيف وثقيل، مثل الهواء قبل العاصفة. في هذا الصمت، يتحرك أعداء التوهج، غير مرئيين ولكنهم حاضرون دائمًا. أشعر بهم في أعماق معدتي، في ضيق صدري. إنهم ليسوا بشرًا، بل قوى، تيارات غير مرئية تجذبني بعيدًا عن نفسي. إنهم يزدهرون في الفراغات بين اللحظات، في التوقفات حيث يتسلل الشك وينمو جذوره.

أسير في الصحراء، والرمال تتحرك تحت قدمي، والأفق دائمًا بعيد المنال. الشمس منخفضة في السماء، وعين مشتعلة تراقب كل تحركاتي. أعلم أنهم هناك، الأعداء، ينتظرون، لكنني لا أستطيع رؤيتهم. إنهم يختبئون في ظلال أفكاري، في شقوق ثقتي. إنهم الريح التي تعوي في الليل، والهمسات التي تطارد أحلامي.

أحاول المضي قدمًا، لكن الأرض تنهار تحت قدمي، والرمال تبتلع خطواتي. أجد نفسي عالقًا، محاصرًا في هذه الدائرة التي لا تنتهي من المحاولة والفشل، من الوصول إلى الهدف ثم الفشل. يضحك الأعداء، وأصواتهم تنتقل عبر الريح، ساخرين من كل محاولة مني للتحرر.

يخرج الأعداء من الشقوق في جمجمتي. إنهم ليسوا رجالاً إنهم يتسللون كالأفاعي، ويتركون وراءهم آثار الشك. أسمعهم في منتصف الليل، يهمسون بألسنة لم أسمعها من قبل ولكنني أفهمها بطريقة ما.

أركض، لكنهم يتبعونني، خطواتهم صامتة لكنها ثقيلة، مثل ثقل ألف ندم غير مذكور. يختبئون في الزوايا


0 التعليقات: