الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يناير 04، 2025

المشهد المتطور للتفاعل الأدبي: الألعاب والنصوص ومشاركة القارئ: عبده حقي


لقد كانت الحدود بين الأدب التقليدي والأشكال الحديثة لسرد النصوص تتلاشى بشكل مطرد في العصر الرقمي، مما أدى إلى ظهور ما يمكن وصفه فقط بأنه نهضة في مشاركة القارئ. وفي قلب هذا التحول يكمن مفهوم التفاعل الأدبي، وهو تفاعل ديناميكي حيث لم يعد القراء متلقين سلبيين بل مشاركين نشطين في تشكيل السرد. وهذا التطور، الذي غالبًا ما تبشر به مجالات الخيال التفاعلي المزدهرة وألعاب الفيديو التي تعتمد على السرد، يدعونا إلى إعادة النظر في معنى القراءة والمشاركة وخلق المعنى في النصوص.

منذ قرون من الزمان، كان الأدب متجذرا في نموذج الاتصال أحادي الاتجاه. ينسج المؤلف نسيج السرد، وينظر القارئ إليه، ويفسره ولكن لا يغير خيوطه أبدًا. وعلى النقيض من ذلك، يعيد الأدب التفاعلي تصور هذه العلاقة كحوار. إن السرديات الحديثة، التي تستلهم الإلهام من المغامرات النصية المبكرة مثل Zork وكتب Choose Your Own Adventure المعقدة في ثمانينيات القرن العشرين، تطالب القراء بشكل متزايد باتخاذ خيارات تؤثر على نتيجة القصة. هذه الخيارات، على غرار تحويل دفة السفينة، تغير مسار المؤامرات، وتتحدى الأفكار المسبقة، وتشرك الجمهور في تأمل أعمق.

إن المظاهر الرقمية للأدب التفاعلي متنوعة بقدر ما هي مقنعة. فكر في حالة ألعاب الفيديو السردية مثل *The Stanley Parable* أو *Life is Strange*، والتي طمست الخطوط الفاصلة بين اللعب وسرد النصوص. هنا، يتنقل اللاعبون - وهم مزيج من القارئ واللاعب - بين المعضلات الأخلاقية والمآسي الشخصية، وتصوغ قراراتهم سرديات مخصصة. تستحضر هذه الأعمال إعلان رولان بارت عن "موت المؤلف"، مما يمكِّن الجمهور من اغتصاب دور حارس البوابة التقليدي. يصبح النص الذي كان ثابتًا ذات يوم كيانًا قابلًا للتغيير، وقابلًا للتغيير مثل الذاكرة نفسها.

لا يقتصر هذا التحول نحو السرد النصوص التشاركي على مجال الترفيه فحسب. بل إنه يعكس اتجاهات مجتمعية أوسع حيث يطالب الأفراد بالوكالة على سردهم، سواء الشخصي أو الجماعي. وفي الأدب التفاعلي، لا يتم تقديم هذه الوكالة فحسب، بل يتم الاحتفال بها. لاحظ الفيلسوف البريطاني ومنظر الأدب تيري إيجلتون أن "الأدب يحول اللغة العادية ويكثفها"، كما يعمل الأدب التفاعلي على تكثيف الاستثمار العاطفي للقارئ من خلال نسج اختياراته في نسيجه. هذا المزج بين الوكالة والفن لا يحول فقط كيفية استهلاك النصوص ولكن أيضًا كيفية فهمها.

إن الآثار الفلسفية لهذا التطور هائلة. ماذا يعني أن "يوجد" نص إذا كان معناه مشروطًا بمشاركة القارئ؟ في عمله الرائد *نقد استجابة القارئ: من الشكلية إلى ما بعد البنيوية*، زعم ديفيد بليتش أن النصوص تستمد معناها من القراء الذين يتفاعلون معها. يجسد الأدب التفاعلي هذه الفكرة من خلال تقديم سرديات تعتمد على اختيارات الجمهور من أجل التماسك. في هذه النصوص، تكون تجربة القارئ أشبه بضربات فرشاة فنان يكمل لوحة غير مكتملة، وهي عملية ذاتية بقدر ما هي إبداعية.

إن تجاهل الانتقادات الموجهة إلى صعود التفاعلية أمر غير مقبول. إذ يزعم المنتقدون أن انتشار الاختيار في السرد يهدد بتقويض جوهر الأدب ذاته ــ قدرته على نقل رؤية أو حقيقة واحدة. فإذا شق كل قارئ مساراً فريداً، فهل يمكن لرسالة متماسكة أن تبقى على قيد الحياة؟ تكمن الإجابة في تصميم هذه الأعمال التفاعلية. فالسرديات المصممة ببراعة لا تتفتت تحت وطأة الاختيار، بل تقدم مسارات تؤدي إلى موضوعات عالمية، تماماً مثل الروافد التي تتدفق إلى نهر مشترك. ويظل جوهر القصة سليماً، وإن كان عرضها قد يختلف.

كما تدعونا الأدبيات التفاعلية إلى المقارنة بالأشكال التقليدية لسرد النصوص الجماعية، مثل التقاليد الشفوية حيث تطورت السرديات مع كل إعادة سرد. ولا تقتصر هذه التوازيات على الجانب الأكاديمي فحسب. ففي كلتا الحالتين، ينفخ تأثير الجمهور الحياة في السرد، مما يضمن أهميته وقابليته للتكيف. ومع تطور المجتمعات، لابد أن تتطور قصصها أيضاً، فتعكس الآمال والمخاوف والتطلعات الجماعية. إن الأدب التفاعلي، مثله كمثل أسلافه الشفوية، يزدهر على هذه السيولة، فيجمع بين الإبداع والدافع القديم للإبداع المشترك.

وعلاوة على ذلك، تعمل التفاعلية على إثراء السرد من خلال دعوة القراء إلى العيش في وجهات نظر تتجاوز وجهات نظرهم. كشفت دراسة أجريت عام 2020 ونشرت في مجلة علم النفس الإعلامي أن المشاركين الذين شاركوا في سرد ​​النصوص التفاعلية أظهروا تعاطفًا متزايدًا مقارنة بمن استهلكوا السرديات الخطية التقليدية. وتؤكد هذه النتيجة على الإمكانات التحويلية للأدب التشاركي في تعزيز الفهم عبر الانقسامات الثقافية والأيديولوجية. من خلال وضع أنفسهم في مكان الآخرين - سواء من خلال سرد متفرع أو لعبة لعب الأدوار - لا يشهد القراء النصوص فحسب؛ بل يعيشونها.

والآن يجد القانون الأدبي، الذي كان ذات يوم معقلًا للجمود، نفسه منتعشًا بهذه التطورات. يتم إعادة تصور الكلاسيكيات في تنسيقات تفاعلية، مما يسمح للقراء بإعادة تفسير الأعمال المحبوبة من خلال عدسات جديدة. لقد تم تكييف حكايات كانتربري لتتحول إلى تجارب رقمية تفاعلية، كما ألهمت مسرحيات شكسبير ألعابًا تعتمد على الاختيار، مما يثبت أن التفاعل لا ينبغي أن يحل محل التقاليد بل يمكنه بدلاً من ذلك تعزيزها. تعمل هذه التعديلات كجسور بين الأجيال، مما يضمن بقاء الحكايات الخالدة في متناول الجميع في عصر تهيمن عليه الشاشات.

ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة. إن إضفاء الطابع الديمقراطي على سرد النصوص، على الرغم من كونه أمرًا جديرًا بالثناء، يخاطر بتخفيف الجودة الأدبية. لا تحقق كل قصة تفاعلية عمق وتطور الأدب التقليدي. وعلاوة على ذلك، يفرض الانقسام التكنولوجي حواجز كبيرة؛ فلا يتمتع جميع القراء بالقدرة على الوصول إلى المنصات الرقمية التي تستضيف هذه السرديات. وتؤكد هذه التفاوتات على أهمية ضمان أن يكمل التفاعل الأدب التقليدي بدلاً من استبداله، مما يوفر مجموعة متنوعة من التجارب التي تلبي احتياجات جميع القراء.

في نهاية المطاف، يبشر صعود التفاعل الأدبي بتحول نموذجي في كيفية إنشاء النصوص واستهلاكها. إنها دعوة لإعادة التفكير في فعل القراءة، وتحويله من ملاحقة منعزلة إلى مشاركة نشطة. وكما يفعل قائد الأوركسترا السيمفونية الذي يشكل ذروة الأداء، يوجه القارئ التفاعلي إيقاع القصة ونبرتها، فينشئ روابط تظل باقية لفترة طويلة بعد أن تتلاشى الصفحة الأخيرة أو الشاشة. ومع استمرار تطور الأدب، فإنه يذكرنا بأن النصوص، سواء كانت ثابتة أو سائلة، خطية أو متفرعة، تظل الأوعية التي تسعى البشرية من خلالها إلى فهم نفسها والعالم.

0 التعليقات: