حين أفكر في عملي الصحفي وأنا أتنقل بين المواقع، أُلاحق الحدث قبل أن يتبخر في هواء الزمن، أدرك أن الصحافة الحيّة ليست مجرّد سباق مع الوقت، بل صراع يومي مع حدود التكنولوجيا. لم تكن تغطية الأحداث في الزمن الحقيقي أمرًا سهلًا في السابق، خصوصًا في ظل ضعف شبكات الاتصال، وتقطّع البث، وتدني جودة الإرسال من مناطق نائية أو مكتظة. لكن شيئًا ما تغيّر مع دخول الجيل الخامس من شبكات الاتصال (5G)، وكأن الصحفي المعاصر حظي بجناحين رقميين يحملهما بثقة نحو المستقبل.
إن تقنية الجيل الخامس
ليست مجرد تحديث تقني، بل تحوّل جذري في البنية التحتية للاتصال. فهي توفّر سرعات تصل
إلى 100 ضعف سرعة الجيل الرابع (4G)،
بزمن استجابة لا يتعدى الميلي ثانية، الأمر الذي يعني بالنسبة لي — كصحفي ميداني —
إمكانية نقل الصور، الفيديوهات، والتعليقات الحية دون تأخير، ودون خشية من أن يتفوّق
عليّ مستخدمو تويتر أو تيك توك في سرعة النشر.
حين كنت أتابع احتجاجات
الحسيمة سنة 2017، كانت تغطية الفيديو المباشر حلمًا محفوفًا بالمخاطر التقنية. أما
اليوم، في ظل تجارب 5G التي بدأت تتسلل إلى المشهد المغربي، يمكن تخيّل
سيناريو مغاير تمامًا. تخيّل صحفيًا يغطي حريقًا، أو كارثة طبيعية، أو حتى لحظة فوز
رياضي تاريخي، وينقل كل ما يحدث بدقة 4K،
دون تأخير، دون تقطّع، وكأن الجمهور في قلب الحدث، يرى ويسمع ويشعر.
لا يخفى على أحد أن
المؤسسات الإعلامية العالمية بدأت بالفعل في استثمار 5G لتطوير
البث المباشر دون الاعتماد على الفرق التقنية الثقيلة. وكالة «BBC» مثلًا، في تقرير لها سنة 2021، أعلنت أنها
اختبرت بنجاح النقل الحي عبر شبكة 5G باستخدام هاتف ذكي فقط، في تجربة وُصفت بأنها
"ثورة في التغطية الإخبارية الميدانية".
أما في السياق المغربي،
فرغم أن البنية التحتية للجيل الخامس لم تعمّم بعد، فإن بعض الجهات بدأت خطوات تجريبية،
لا سيما في الرباط والدار البيضاء. وإذا ما وُفّرت البيئة التنظيمية والدعم الاستثماري
اللازم، فإن غرف الأخبار المغربية ستكون على موعد مع نقلة نوعية قد تضعها في مصاف التجارب
الصحفية العالمية.
لكن هذا التطور لا
يخلو من إشكاليات. من الناحية الأخلاقية، يُطرح سؤال حول صدقية الأخبار المتدفقة بهذه
السرعة. فالتسرّع في النشر قد يأتي على حساب التحقّق والدقة. هنا تبرز الحاجة إلى صحفي
"رقمي" لا فقط في أدواته، بل في وعيه النقدي. كما أن الاعتماد الكبير على
5G يفرض تساؤلات حول الأمن السيبراني، وخصوصية البيانات،
وسيطرة شركات الاتصالات على المحتوى. الكفاءة التقنية وحدها لا تكفي دون إطار قانوني
وأخلاقي يحصّن الحرفة الصحفية من الوقوع في فخ التهويل أو التوجيه غير الواعي للرأي
العام.
في مقال نشرته مجلة «مراجعة
كولومبيا للصحافة»
سنة 2020، أشار الباحث «نيكولاس
دياكوبولوس»
إلى أن "سرعة
البث لا تعني جودة المحتوى، وأن على الصحفيين التمييز بين التغطية الفورية والسطحية".
عبارة أضعها دائمًا نصب عيني حين أتحرّك بسرعة كاميرا الهاتف في يد، ودفتر الملاحظات
في الأخرى.
ربما كانت الصحافة
منذ نشأتها في القرن التاسع عشر تُعرف بأنها عين المجتمع، لكن في عصر 5G، يمكن القول إنها أصبحت نبضه السريع، تنقل الانفعالات
والانكسارات والانتصارات لحظة وقوعها، دون فلتر، دون تأخير، وربما دون مساحة للتأمل.
وهذا ما يدفعني، ككاتب وإعلامي، إلى التفكير في مستقبل مزدوج: واحد تقني تتسارع فيه
الأدوات بشكل مذهل، وآخر إنساني يحتاج إلى إبطاء الإيقاع قليلًا حتى لا تفقد الكلمات
معناها، وحتى لا نتحوّل نحن الصحفيين إلى روبوتات تردّد ما تلتقطه عدساتها دون فكر
أو حسّ نقدي.
الجيل الخامس هو بلا
شك جسر عبور نحو جيل جديد من الصحافة، لكنه جسر لا بد أن
يُبنى على أساس متين
من المهنية، التكوين المستمر، والأخلاقيات. وإن لم نفعل، فقد نكون أولى ضحايا هذه الطفرة
الرقمية التي تمنحنا كل شيء... إلا الوقت للتفكير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق