الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أبريل 18، 2025

ما الفلسفة؟… حين يمشي فوكو على حدّ السكين: عبده حقي


لطالما طرحتُ على نفسي هذا السؤال: ما الفلسفة؟ ليس كنوع من الترف الفكري، ولا كإحالة مدرسية تقليدية إلى سقراط أو أفلاطون، بل كاحتياج وجودي، كجوع لا يشبعه سوى المجهول. وعندما وقعتُ بين يدي هذا النص لفوكو، شعرتُ وكأنني أقف على حافة هاوية فكرية، حيث لا شيء ثابت، وحيث كل ما كنت أظنه "معرفيًا" صار فجأة مجرد بناء هشّ تنهشه الرياح.

لم يكن فوكو يُعرّف الفلسفة، بل كان يفككها كما يفكك التاريخ والجسد والجنون. لم يسأل "ما الفلسفة؟" ليعطينا جوابًا، بل ليدفعنا نحو متاهةٍ نعيد فيها بناء السؤال ذاته في ضوء ما يُخفى لا ما يُقال. وأظن أن هذه هي أعظم فضيلة لفوكو: أنه لا يمنحك المعرفة، بل يجعلك تفكّر في شروط إنتاجها.

في هذا الكتاب، لم يكن فوكو يبحث في "ماهية الفلسفة" كأفلاطونيّ يبحث عن الجوهر، بل كان يلاحق آثارها كما يلاحق عالم آثار بقايا حضارةٍ دُفنت تحت طبقات من الخطاب والسلطة والمعرفة. كان يرى الفلسفة حدثًا لا تعريفًا، ممارسة لا تنظيرًا، تمرّدًا لا تقنينًا. وكأن الفلسفة، في نظره، لا تُولد إلا حين يتصدع النظام، حين تنهار اللغة، حين يخون السؤال الجواب.

استوقفتني فقرة في بداية الكتاب حين يقول، بصوتٍ شبيه بالهمس: "ليست الفلسفة حب الحكمة، بل هي تفكيك ما نُسِج على أنه حكيم". هنا، شعرتُ كما لو أنني أواجه صدمة أولى: كيف يكون دور الفلسفة تقويض ما هو مُسلَّم به؟ أليست هي، كما تعلّمنا، بحثًا عن الحقيقة؟ لكن فوكو يجرّنا إلى مقلب آخر من التفكير: الحقيقة نفسها ليست إلا نتاجًا لخطابات، لبنى، لسياقات سلطوية. وما على الفلسفة إلا أن تسائل الحقيقة لا أن تسجد لها.

قراءة هذا الكتاب تُشبه دخول زنزانة، لا لأن فوكو متشائم أو مظلم، بل لأن الفلسفة لديه لا تتحقق إلا داخل السجن: سجن اللغة، سجن التاريخ، سجن الأنا. لقد جعلني أفهم أن الذات الفاعلة في الفلسفة هي ذات "خاضعة"، مُشكَّلة ومراقَبة. لم أعد، بعد هذه القراءة، أرى نفسي كفاعل معرفي مستقل، بل كمنتَج لسلطةٍ ما، لخطابٍ ما، لزمنٍ ما.

وما يثير الإعجاب، أو لنقل الرعب الفكري، هو أن فوكو لم يثق يومًا في النوايا الطيبة للمعرفة. لقد علّمني هذا النص أن الفلسفة لا تكون شجاعة إلا حين تفضح علاقتها المشبوهة بالسلطة. لا فلسفة بريئة، يقول فوكو. فحتى مفاهيم مثل "العقل"، "الجنون"، "العدالة"، "الحرية"، كلها نتاج صراع قوى، لا صفاء تجريدي

في هذا النص، شعرتُ بأنني أرافق فوكو في رحلته بين "حفريات المعرفة" و"نسبية الخطاب". لم يكن يكتب ليعلّم، بل ليوقظ. لم يكن يحاضر، بل يزعزع. في إحدى فقراته، اقتبس مقولة هيراقليطس: "لا يمكنك أن تسبح في النهر نفسه مرتين"، ثم علّق قائلًا: "كذلك الفلسفة، لا تُمارس بالطريقة نفسها مرتين". وهنا عرفت أن الفلسفة ليست منهجًا، بل قلق دائم.

ولعل أجمل ما في الكتاب هو أنه لا يمنحك "ما الفلسفة؟" كعنوان جاهز، بل يتركك في مواجهة ذاتك: كيف تفكّر؟ من أين جاء ما تفكّر به؟ ما الجهة التي تسمح لك بالتفكير على هذا النحو دون غيره؟ هي فلسفة الريبة، نعم، لكنها ريبة خَلّاقة، تولّد أسئلة بدل أن تطفئها.

بعد انتهائي من القراءة، لم أخرج بجواب شافٍ، بل بأسئلة جديدة، بعضها موجع، وبعضها ضروري. تساءلت: هل أستطيع بعد الآن أن أثق بأي "حقيقة" تُقال في الأخبار، أو في الكتب، أو حتى في دواخلي؟ هل أنا مجرد نسخة من خطابات سابقة؟ هل الفلسفة حريتي أم قيدي؟

هذا الكتاب ليس للتلقين، بل للانفجار الداخلي. ليس بوابة للفهم، بل لعنة المعرفة. من يقرأه لا يمكنه العودة كما كان. فوكو لا يحررك، بل يجعلك تدرك قيودك. ومن يدرك قيوده، يبدأ في طرح الأسئلة الصحيحة.

وأنا اليوم، إذ أضع هذا الكتاب جانبًا، لا أستطيع إلا أن أبتسم بمرارة. لقد عرفت الآن أن الفلسفة ليست في المكتبات، ولا في الجامعات، ولا في أقوال الحكماء. الفلسفة تبدأ حين يتصدّع شيء في داخلك. وحين يحدث هذا، لا يعود هناك مهرب.

0 التعليقات: