الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أبريل 18، 2025

«الصحافة الجماهيرية: حين يصبح الشاهد صحفياً والعابر مصدراً» ترجمة عبده حقي


لم أعد أنظر إلى الهاتف المحمول كأداة تواصل فحسب، بل كغرفة أخبار مصغّرة، تحتشد فيها المعلومة واللقطة والشهادة في لحظة واحدة. في زمن تحوّلت فيه المنصات الاجتماعية إلى مدرجات تعجّ بالمشاهدين والصانعين على حد سواء، أجد نفسي منجذباً لتأمل هذا التحوّل العميق الذي يُدعى "الصحافة الجماهيرية" أو «Crowdsourced Journalism».

لا أتحدث عن مجرد تغريدة تُرفق بصورة لحادث عابر، بل عن منظومة إنتاجية كاملة بات فيها الجمهور، بكل تنوعه العفوي والمُربك أحياناً، يشارك في صنع الخبر ونقله وربما تفسيره. هذه الدينامية الجديدة تضعنا أمام ثورة معرفية لا تشبه سابقتها في عالم الصحافة التقليدية، بل تتحدى مؤسساتها، وتعيد رسم حدود "السلطة الرابعة".

في كتابه «»The Elements of Journalism»، يذكّرنا بيل كوفاتش بأن الصحافة جوهرها التحقق، الدقة، والوفاء بالحقيقة. لكن ماذا لو أصبحت الحقيقة مشاعة؟ وماذا لو كان من ينقلها ليس صحفياً مدرباً، بل فرداً عابراً يحمل هاتفاً ذكياً؟ هكذا تبرز أولى الإشكالات: المصداقية. من يضمن صحة ما يُنشر في سيلٍ لا يتوقف من الفيديوهات والتعليقات والصور؟ ومن يتحمل مسؤولية خطأ قد يُشعل فتنة أو يُحرج ضمير أمة؟

ومع ذلك، لا يمكنني تجاهل النفع الهائل الذي قدمته هذه الصحافة الجماهيرية، خصوصاً في مناطق النزاع أو الكوارث، حيث يصعب على الصحفيين الوصول. لن أنسى الفيديوهات التي خرجت من أوكرانيا أو السودان أو غزة، والتي التقطها مواطنون عاديون، لكنها صنعت عناوين كبريات الصحف العالمية. كما أشار تقرير حديث لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، فإن "الصحافة المواطنية" لعبت دوراً جوهرياً في توثيق الانتهاكات التي لم تكن لتُرصد لولا شجاعة أصحاب الهواتف المحمولة.

ولكن خلف هذا الانفتاح الرقمي، تكمن فوضى مفاهيمية. ففي غياب التأطير المهني، تتحول بعض المشاركات الجماهيرية إلى وسيلة للتضليل أو المبالغة أو حتى تشويه الحقائق عمداً. ولعلنا نعيش اليوم عصر «ما بعد الحقيقة» كما وصفته الكاتبة كاثرين فينر رئيسة تحرير الغارديان، في مقالها الشهير، حيث قالت: "في زمن ما بعد الحقيقة، لا يهم إن كانت المعلومة صحيحة، بل إن كانت تثير مشاعر قوية."

أنا لا أُنكر أن الجماهير اليوم باتت أكثر وعياً، وأنها تطالب بمساءلة الإعلام التقليدي الذي خذلها كثيراً. لكنني أيضاً لا أريد أن أرى الصحافة تتحول إلى ساحة صراخ أو سوق للتصفيق الرقمي. نحن بحاجة إلى توازن دقيق، يسمح بتكامل بين الصحفي المهني والمواطن الشاهد، دون أن نخلط بين التحقيق والانفعال، بين التوثيق والتعبئة.

من ناحية أخرى، أدهشني كيف بدأت بعض المؤسسات الإعلامية الرائدة تتبنى هذا النمط الجماهيري بذكاء. فـ"الجارديان" البريطانية، مثلاً، أطلقت منصة "GuardianWitness"  لتشجيع المواطنين على إرسال الصور والشهادات. وكذلك فعلت "الجزيرة" في مبادراتها المفتوحة مثل "Sharek". هذه الشراكات الجديدة تعكس وعياً بأن الصحافة لم تعد سلطة تُمارس من فوق، بل مشاركة تُبنى من القاعدة إلى القمة.

لكن الخطر الأكبر، في نظري، لا يكمن في التقنية، بل في الغياب شبه الكلي للضوابط القانونية والأخلاقية التي تؤطر هذا النشاط الجماهيري. في كتاب «أخلاقيات الإعلام: قضايا وقضايا»، يوضح فيليب باترسون أن "النية الحسنة لا تعفي من المسؤولية الأخلاقية". وهذا ما ينسحب على المواطن-الصحفي، الذي قد لا يُدرك أن منشوره قد يُعرض حياة آخرين للخطر، أو يُسهم في تشويه سمعة إنسان دون دليل.

وهنا تطرح الأسئلة نفسها بإلحاح: هل نحتاج إلى تدريب المواطن على أُسس الصحافة؟ هل من دور للجامعات ومراكز الإعلام لتكوين جيل رقمي يجمع بين الحماسة والمعرفة؟ أليس من الضروري أن نبتكر "مدونات سلوك رقمية" تُلزم المنصات والمستخدمين معاً بمبادئ واضحة؟

أنا لا أملك كل الأجوبة، لكنني على يقين أن المستقبل سيكون مختلطاً، لا أبيض ولا أسود. سنحتاج إلى غرف أخبار هجينة، تقبل المساهمة الجماهيرية دون أن تفرط في المهنية، وتمد جسوراً بين الرواية الحية والتدقيق الصارم. سنحتاج إلى إعلام ينصت للناس دون أن يفقد هويته. فالصحافة في نهاية المطاف ليست مجرد ناقل للحدث، بل ضميرٌ يحاور الحقائق ويمنحها معناها الإنساني.

في زمن تتقاطع فيه الأصوات والعدسات، تبقى الصحافة، سواءً كانت من المحترفين أو من المواطنين، مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون وسيلة إعلامية. ويبدو أن هذا العصر، بكل ما فيه من فوضى وإمكانيات، يطالبنا بأن نُعيد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: من يملك الحقيقة؟ ومن يحميها حين يعمّ الضجيج؟

0 التعليقات: