الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 03، 2025

من التهجم إلى التمويه: قراءة في تغيير خطاب جيراندو الأخير؟ عبده حقي


اهتزّ الرأي العام في المغرب في الساعات الأخيرة، بفعل تصريحات جيراندو الاستفزازية، وهو شخصيةٌ تصدّرت منصات التواصل الاجتماعي منذ فترة قليلة بمهاجمته المُباشرة لرموز الدولة المغربية والتشكيك في ثوابتها الأساسية.

لقد أثارت تصريحاته الخبيثة، التي نُشرت عبر مُختلف المنصات الإعلامية، غضبا وطنيًا قويًا وأثارت استنكارًا على أوسع نطاق. لكن الآن، وفي تحوّلٍ غير مُتوقع، غيّر جيراندو من لهجته وصرح بعظمة لسانه في آخر فيديو أنه متشبث حتى الموت بشعار المملكة المغربية "الله الوطن الملك" . ومع ذلك، يتساءل الكثيرون: هل هذا تحوّلٌ حقيقي في قناعاته أم خطوةٌ مُدبّرةٌ للتهرّب من المُساءلة؟

ما يُلفت الانتباه أكثر في موقف جيراندو الأخير ليس اعترافًا صادقًا بالخطأ، ولا اعتذارًا صادقًا لمن أساء إليهم. بدلاً من ذلك، يبدو أنه شرع في هلوسة وتمرين لغوي - لإعادة صياغة دقيقة لادعاءاته السابقة دون التراجع عنها. قد يرى البعض هذه البهلوانات اللفظية مناورة ذكية، لكنها بالنسبة لكثير من المغاربة تنم عن انتهازية بلقاء . إن جوهر المسألة لا يكمن فقط في ما قاله، بل في رفضه الاعتراف بخطورة أفعاله.

إن التشكيك في رموز الدولة - سواء أكانت الملكية أم العلم أم الوحدة الوطنية - هو طعن في جوهر الهوية المغربية. إن هذه الرموز ليست مجرد مفاهيم سياسية؛ بل هي راسخة في الوعي الجماعي للشعب المغربي. إنها تمثل قرونًا من التاريخ والنضال والسيادة والتضحية. لذلك، فإن أي هجوم عليها لا يُعتبر مجرد رأي أو خلاف، بل إهانة للأمة ككل.

هذا ما اقترفته تصريحات جيراندو السابقة تحديدًا. فقد سعت إلى تقويض ثقة الشعب في المؤسسات الوطنية وزعزعت عقيدة المغاربة تحت ستار حرية التعبير. مع ذلك، فالحرية لا تعني التشهير، ولا تُبرر العداء للقيم الأساسية للأمة. فالشعب المغربي يُدرك جيدًا الفرق بين النقد البنّاء والتشهير المُدبّر. كما أنه لا يُخدع بسهولة بالمنعطفات الخطابية أو الألاعيب الدلالية.

إنّ تحوّل جيراندو الأخير في اللهجة، الخالي من المسؤولية أو الندم، يُعزز الشكوك في أنه تراجع تكتيكي وليس تحولًا حقيقيًا. في مواجهة ردود الفعل العنيفة المتزايدة، والتدقيق القانوني، والاحتجاجات الشعبية، يُمكن تفسير هذه الخطوة على أنها محاولة لخلط الأوراق ولخلق غموض حيث يُطلب الوضوح. إنها استراتيجية كلاسيكية يستخدمها جميع الخونة أولئك الذين يرغبون في التهرب من المساءلة: التضليل، وإعادة الصياغة، والتشويش، والتراجع إلى الغموض.

لكن التاريخ مثل البشر يتذكر كل حدث بوثوق. إنه لا ينسى من سعوا إلى تمزيق وحدة الشعب أو تشويه صورة وطنهم. سيُسجل اسم جيراندو، خيرًا كان أم شرًا، في فصلٍ من فصول المواجهة - فصلٌ نهض فيه المغاربة من جميع مناحي الحياة للدفاع عن كرامتهم الوطنية.

لقد أثبت الشعب المغربي مرارًا وتكرارًا صموده واعتزازه بقيمه الوطنية. من جبال الريف شمالا إلى الصحراء جنوبا، يتجذر شعور الوحدة والانتماء. إن محاولات تقويض هذه الروح، سواءً من الداخل أو الخارج، محكوم عليها بالفشل. ويجب محاسبة من يُحرضون على التفرقة وإذكاء النعرات العرقية والتشكيك في الثوابت الوطنية - ليس فقط أمام الرأي العام، بل أيضًا من خلال الآليات القانونية والمؤسسية.

إن المساءلة القانونية ليست انتقامًا؛ بل عدالة أساسية. إنها تتعلق بإعلاء سيادة القانون وحماية سلامة الدولة. لا أحد، مهما كان منصبه أو نفوذه، فوق القانون. ينبغي أن تُشكل قضية جيراندو سابقةً - رسالةً واضحةً بأن الخطاب العدائي الذي يستهدف سيادة المغرب ورموزه المقدسة سيُقابل بمقاومةٍ حازمةٍ وقانونية.

علاوة على ذلك، فإن رفضه الاعتراف بالخطأ ليس مجرد تقصير شخصي، بل هو استراتيجية متعمدة لإعادة صياغة الرواية، وطمس الخطوط الفاصلة بين النقد البناء والتحريض. لكن المجتمع المدني المغربي، والخبراء القانونيين، وعامة المواطنين، أظهروا براعة متزايدة في كشف مثل هذه الأساليب. إنهم يدركون أن الصمت أو اتخاذ إجراءات غير كافية في مواجهة هذا الاستفزاز سابقة خطيرة.

دعونا لا ننسى أيضًا أن المغرب، كأي دولة حكيمة وناضجة، يشجع الحوار، ويحتضن التعددية بكل أشكالها ، ويدعم النقاش المفتوح. لكن هذا الحوار يجب أن يتجذر في الاحترام المتبادل، لا في الاستفزاز. يجب أن يهدف إلى البناء، لا إلى الهدم. لقد وضعت أقوال جيراندو وأفعاله، وما تلاها من تهرب، خارج نطاق الخطاب المشروع.

ومع انقشاع غبار مسرحيته ، يبقى أمر واحد مؤكدًا: لا يمكن تجاهل أو تقويض كرامة المغرب ورموزه ومساره التاريخي بفيديوهات عابرة أو مناورات سطحية. إن ذاكرة الشعب طويلة، وولاؤه لوطنه وملكه راسخ. وتظل المساءلة، بجميع أشكالها، حجر الزاوية في بناء دولة عادلة وصامدة.

في الختام، إن تغيير لهجة جيراندو بدرجة 180 من اليسار إلى اليمين في فيديو أخير - وإن كان ملحوظًا - غير كافٍ. فبدون اعتراف أو اعتذار أو مساءلة، تبدو مناوراته أقرب إلى حيلة بلقاء لا إلى تطور عميق. والمغاربة، بعيدًا عن الانخداع، سوف يظلون يقظين. فالدفاع عن الثوابت الوطنية ليس توجهًا موسميًا، بل هو واجب جماعي أزلي وسرمدي.

0 التعليقات: