حين قرأت لأول مرة على مراجعة كتاب "Electronic Literature: New Horizons for the Literary" للباحثة الأمريكية «N. Katherine هايلس»، شعرت وكأنني أدخل مختبرا لا يشبه شيئًا مما عهدته من قبل. لم تكن القراءة فيه فقط تأملاً في تطور الأدب، بل كانت أشبه بجولة داخل دماغ المستقبل، حيث الكلمات تتقاطع مع الأكواد، والخيال يلتقي بالذكاء الاصطناعي، والسرد يتحول إلى تجربة حسّية تفاعلية.
أنا القادم من خلفية
أدبية كلاسيكية، والمولع بنثر الجاحظ وسحر نزار قباني ، لم أكن مستعدًا تمامًا لما
ينتظرني داخل هذا العمل الطليعي. لكن ها أنا اليوم، أكتب هذه القراءة، وقد تغيّرت نظرتي
ليس فقط للأدب، بل لفكرة “الكتابة” ذاتها.
في هذا الكتاب، لا
تقدم
«هايلس» مجرد عرض تاريخي لنشأة الأدب الإلكتروني،
بل تدفعنا للتفكير في سؤال جوهري: ما الذي يحدث للأدب عندما يُولد داخل بيئة رقمية؟
كيف تتغير بنيته، سلطته، وحتى معناه؟
تحلل المؤلفة الأنواع
المختلفة للأدب الإلكتروني — من النصوص التشعبية إلى القصائد التفاعلية، ومن روايات الألعاب
إلى السرديات المدعومة بالصوت والصورة — كاشفةً عن أفق أدبي جديد تتداخل فيه الوسائط
المتعددة مع الكلمة المكتوبة.
أكثر ما لفتني هو التمييز
الذي وضعته هايلس بين
"الأدب الذي يُقرأ على الشاشة" و"الأدب الذي لا يمكن أن يوجد إلا على
الشاشة". وهذا بالذات هو جوهر أطروحتها: ليست كل كتابة رقمية أدباً إلكترونيًا
بالمعنى الإبداعي. إن النصوص التي تستفيد من خصائص الوسط الرقمي (التفاعلية، التعدد
الوسائطي، البرمجة...) تفتح آفاقًا جمالية جديدة، وتحرّض القارئ على أن يكون مشاركًا،
لا متلقيًا فقط.
في أحد فصول الكتاب،
تتحدث
هايلس عن
"النصوص المتقلبة" (mutable texts) التي تتغير حسب تصرف القارئ أو حسب الزمن أو حتى الحالة الجوية في جهازه.
لقد شعرت كأنني أقرأ قصيدة محمود درويش، ولكن هذه المرة كان كل بيت فيها يُولد من جديد
كلما قرأته. هل يمكن أن يكون هذا مستقبل الشعر؟ ربما.
بالنسبة لي ككاتب مغربي،
إن هذا الكتاب أيقظ فيّ أسئلة كثيرة: ماذا عن أدبنا العربي؟ هل نحن مستعدون فعلاً لهذه
النقلة من الورق إلى الشاشة؟
حين أتأمل في الساحة
الأدبية المغربية، أجد بوادر تجريب رقمية هنا وهناك، لكن ما يزال حضور الأدب الإلكتروني
عندنا خجولاً، يكاد لا يخرج من طور "النسخ واللصق" في منصات التواصل.
أين هي النصوص التي
تحاور قارئها؟ أين القصائد التي تتغير حسب نغمة صوته أو اتجاه نظرته؟
ربما نحن بحاجة أولاً
إلى تفكيك تصوراتنا التقليدية حول ماهية الأدب. فالقصيدة لم تعد محصورة في ورقة تُلقى
على منبر، بل يمكنها أن تكون تطبيقا على الهاتف، أو لعبة تتطلب حلاً شعريًا للغزٍ سرديّ.
الجميل في أسلوب «هايلس» هو توازنها بين العمق النظري والسلاسة في
الشرح. فهي تستعين بأمثلة من أعمال رقمية حقيقية، مثل رواية "بعد
الظهيرة "
لمايكل جويس و" فتاة
الترقيع "
لشيللي جاكسون، وتشرح
كيف تؤسس هذه الأعمال لنمط قراءة مختلف، يضع القارئ في موقع المُصمِّم بدل المتلقّي
السلبي.
وقد استعانت في بناء
أطروحتها بعدة نظريات من النقد الأدبي وما بعد البنيوية، مستحضرة مفكرين مثل «رولان
بارت.
وفوكو»، لتسائل مفاهيم "المؤلف"،
"النص"، و"القارئ" في السياق الرقمي.
شخصيًا، شعرت بأن كتابها
يستكمل خطًا نقديًا انطلق منذ إعلان "موت المؤلف"، لكنه في هذه المرة يعلن
عن "ولادة القارئ الفاعل"، لا فقط الرمزي.
ومن جهة أخرى، لا تغفل «هايلس» الجوانب التقنية والبرمجية التي تؤثر في الأدب
الرقمي، وهو ما يجعل هذا الكتاب مرجعًا مفيدًا ليس فقط للباحثين في الأدب، بل أيضا
للمبرمجين والمصممين المهتمين بصناعة المحتوى الإبداعي.
إنها تدعو إلى
"معرفة مزدوجة": على المبدع أن يعرف كيف يُبدع أدبيًا، لكن عليه أيضا أن
يفهم على الأقل أساسيات البيئة الرقمية التي يُنتج فيها نصه.
في نهاية المطاف، لقد
خرجت من هذا الكتاب وقد تشكّلت لديّ قناعة جديدة: إننا نعيش اليوم لحظة تحول في تاريخ
الأدب لا تقل أهمية عن لحظة اختراع المطبعة.
وكما أثارت الطباعة حفيظة النقاد التقليديين في القرن الخامس عشر، ها هي الكتابة الإلكترونية تثير ارتباكًا مشابهًا. لكن ما تعلّمته من «هايلس» هو ألا أخاف من هذا الارتباك، بل أعتبره علامة على أن الأدب لم يمت، وإنما يُعيد اختراع نفسه بلغة جديدة.
ككاتب مغربي، أحسست
وكأن هذه الدعوة موجهة إليّ مباشرة: لا تنتظر اللحاق، بل كُن من يخلق هذا التحول في
لغتك وثقافتك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق