الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أبريل 20، 2025

كيف تحوّلنا الصورة البيانية من متلقين إلى شهود عيان في عصر الصحافة الجديدة: ترجمة عبده حقي


لقد أدركت، كمغربي مهتم بالإعلام وتحولاته، أنّ الصحافة في زمننا لم تعد مجرّد حروف تُصفف على الورق أو كلمات تنهمر من أفواه المذيعين، بل أصبحت الصورة هي القلب النابض للمعلومة. غير أنّ الصورة التي أقصدها هنا ليست مجرّد لقطة فوتوغرافية أو فيديو يُبثّ على منصات التواصل، بل هي تلك التي تولد من رحم الأرقام: الرسوم البيانية، الخرائط التفاعلية، والمخططات المتداخلة. هي الصورة التي تعيد تشكيل الواقع وتجعل من المتلقي طرفًا في عملية الفهم لا مجرد متفرج. الحديث هنا عن «دور التصور البياني للبيانات (Data Visualization) في إثراء القصص الإخبارية وجعلها أكثر عمقًا ومصداقية.

لقد أصبحت البيانات لغة عصرنا، ومن لا يتقن قراءتها أو توظيفها، كمن يحاول السباحة ضد التيار. التصور البياني ليس ترفًا تقنيًّا، بل هو وسيلة لتحويل التعقيد إلى وضوح. أتذكر كيف صُدمت حين قرأت تحقيقًا منشورًا على موقع «The New York Times» حول وفيات كورونا، لم يكن النص هو ما أثر فيّ، بل ذلك الرسم الانسيابي الذي مثل عدد الوفيات على شكل موجة، تشبه في صعودها وانهيارها نبضات الحياة. أدركت حينها أن الأرقام وحدها لا تحكي الحكاية، بل تحتاج من يصوغها بلغة مرئية تجعلنا نشعر بها قبل أن نفهمها.

الصحافة المغربية، مع الأسف، لا تزال تتلمّس طريقها في هذا المجال. فرغم وفرة القضايا والمجالات التي تستدعي توظيف التصور البياني – من نسب البطالة في أوساط الشباب، إلى التفاوت المجالي في البنية التحتية، إلى ميزانيات الجماعات المحلية – إلا أنّ أغلب المؤسسات الإعلامية لا تزال تتعامل مع البيانات وكأنها ترف فكري أو عبء إضافي. بينما أصبحت كبريات المؤسسات الإعلامية في العالم، مثل «بي بي سي» ولوموند» »ورويتر»,  تعتمد فرقًا متكاملة من صحفيين ومصممين ومبرمجين لإنتاج أخبار صحفية تفاعلية، تجمع بين النص والصوت والصورة، والبيانات.

إنّ القيمة المضافة للتصور البياني في الصحافة تكمن في قدرته على كشف الأنماط الخفية، وتبسيط الظواهر المركّبة، وإقناع القارئ ببرهان بصري لا جدال فيه. فحين يرى المواطن المغربي خريطة تفاعلية تُظهر الفجوة الرقمية بين القرى والمدن، أو رسما بيانيًّا يكشف التباين الصارخ بين الإنفاق الصحي في الجهات، فإنه لا يحتاج إلى خطب عصماء كي يقتنع. إنها بلاغة الصورة التي تعفي الصحافي من كثير من التأويل.

لكنّ هذه البلاغة لا تتحقق إلا بشروط: أوّلها «مصداقية البيانات»، وثانيها «نزاهة التصور». فكم من رسم بياني مُضلِّل يخفي الحقيقة أكثر مما يكشفها، إما بإسقاط معلومات مهمة، أو بتلاعب بالمحاور لتوجيه الرأي العام. لذلك فإن توظيف التصور البياني في الصحافة يحتاج إلى أخلاقيات مهنية صارمة، ووعي بأن ما يُعرض بصريًا قد يُفهم بشكل مختلف عن النص المكتوب. في هذا السياق، تحذر "ن. كاثرين هايلز" في كتابها "How We Think"   من السطوة الرمزية للصور الرقمية، إذ قد تمنح وهم الدقة والموضوعية بينما تخفي اختيارات انتقائية في خلفيتها.

إنّني أرى أن التصور البياني ليس فقط أداة للشرح، بل يمكن أن يكون وسيلة للمقاومة أيضًا. تخيّلوا معي تحقيقًا صحفيًا حول توزيع الأراضي السلالية في المغرب، مدعومًا بخريطة تفاعلية تُظهر المواقع والأسماء وتواريخ التفويت. ألن يكون لهذا وقع أكبر من مجرد مقال ورقي؟ أو رسم بياني يتتبع ميزانيات المهرجانات الثقافية في مواجهة مؤشرات الفقر والهشاشة؟ هكذا تصبح الصورة وسيلة لكشف التناقضات لا تجميلها.

وقد لا يكون غريبًا أن نجد كبريات الجامعات، مثل «MIT» أو «ستانفورد», قد أسست برامج أكاديمية في «صحافة البيانات  (Data Journalism)»، لأنهم أدركوا أنّ المستقبل لا ينتمي لمن يكتب فقط، بل لمن يستطيع أن يحوّل المعلومات إلى أخبار، والأخبار إلى صور حيّة. إننا بحاجة إلى صحفيين يتقنون البرمجة كما يتقنون السرد، ويجيدون قراءة الجداول كما يجيدون تحرير العناوين.

في مغرب اليوم، حيث تغمرنا الأخبار على مدار الساعة، وتتنافس المنصات الرقمية في جذب الانتباه، يصبح التصور البياني وسيلة للتمايز. فهو لا يكتفي بإبلاغ القارئ، بل يشركه في القصة، يدفعه إلى التفاعل، ويفتح أمامه أبوابًا لفهمٍ أعمق. لذلك، فإن رهاننا في الصحافة ليس فقط على من يملك الكاميرا أو القلم، بل على من يملك الأدوات لفهم وتحويل الأرقام إلى وعي بصري جماعي.

نحن بحاجة إلى ثورة هادئة في غرف التحرير المغربية. ثورة لا تقوم على الشعارات، بل على إدماج أدوات التصور البياني في صلب العملية الصحفية، وتكوين جيل جديد من الصحفيين القادرين على اختراق ضباب المعطيات وتحويلها إلى خيوط سردية تمكّن المواطن من رؤية ذاته ومجتمعه بعيون أكثر شفافية. عندها فقط، لن نكون مجرد قرّاء، بل شهودًا على عصرنا، نصغي إلى لغة جديدة تُكتب بالأرقام وتُروى بالصور.

0 التعليقات: