في لحظة ما، حين كنت أتنقل بين قصائد رقمية على شاشة حاسوبي، شعرت أنني لم أعد أقرأ كما اعتدت، بل أبحر، أو بالأحرى أتسلل داخل غابة شعرية تتشابك فيها الكلمات مع الصور، ويتعانق فيها الصوت مع الحركة، وكأن القصيدة لم تعد سطرًا يُتبع بآخر، بل جسد متعدد الأطراف، متحول، ومراوغ. في تلك اللحظة، أدركت أنني بصدد مواجهة ما يُسمى بـ"الشِعر الفائق" أو «Hypermedia Poetry، تجربة لا تشبه ما عرفناه من قصائد ورقية تُقرأ من الأعلى إلى الأسفل، بل هي بنية «جذمورية» بالمعنى الذي اقترحه دولوز وغاتاري في عملهما «"ألف هضبة"«، حيث لا مركز ولا بداية ولا نهاية، بل تشابك وتعدد واتصال حر.
في المغرب، ما زال
هذا النوع من الشِعر الرقمي في بداياته، لكنه يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة النص، حدود
المعنى، وموقع القارئ. لم أعد مجرد متلقٍ سلبي، بل أصبحتُ جزءًا من عملية خلق النص
نفسه. القصيدة تطلب مني أن أختار، أن أنقر، أن أستكشف. إنها ليست دعوة للقراءة فحسب،
بل لتحويل النص إلى تجربة حسية، وجدانية، ومعلوماتية في آن واحد.
ما يُميز الشِعر الفائق
أنه لا يعتمد فقط على الكلمات، بل ينفتح على وسائط متعددة: الفيديو، الصورة، المؤثرات
الصوتية، وحتى البرمجة التفاعلية. هنا، لا يكفي أن نتحدث عن شاعر يكتب، بل عن «مُصمم
نصي» أو «مُركب وسائط»، يعمل على مستوى لغوي وتقني وفني في آن. أحد أبرز الأمثلة العالمية
هو مشروع «"The
Last Performance"« للكاتب سكوت رتبرغ، الذي استعان بمنصة تفاعلية تُولّد النصوص وتُعيد تركيبها
بناءً على تفاعل القارئ، ما يجعل كل تجربة قراءة مغايرة للأخرى.
المرجعيات النظرية
لهذا النوع من النصوص متعددة، لكنها تلتقي عند فكرة تفكيك البنية الخطية. في كتابها «"Writing Machines"«، تعتبر كاثرين هايلز أن الكتابة الرقمية
ليست مجرد ترجمة إلكترونية للورقي، بل هي تحوّل جوهري في العلاقة بين النص والمادة
والوسيط. هذه الرؤية تعيدنا إلى ما بعد البنيوية، حيث تم تفكيك وهم المركز الواحد للمعنى،
وهو ما نجد صداه في الشعر الفائق، الذي يرفض النسق الواحد، ويقترح بدله شبكة مفتوحة
من الدلالات.
شخصيًا، ككاتب مغربي
مفتون بالقصيدة وبالفعل الرقمي معًا، أرى في هذا الشعر الفائق فرصة لإعادة اختراع الذات
الشعرية. لم تعد الكتابة هنا مجرد إفصاح عن تجربة داخلية، بل هي بناء لتجربة تعبيرية
هجينة، تجمع بين الشعر والبرمجة، بين الحرف والصورة، بين اللغة والكود. إنه شعر لم
يعد يخجل من التكنولوجيا، بل يعانقها، ويحوّلها إلى وسيلة للانفلات من الزمن الخطي،
من الرقابة الشكلية، ومن مركزية الذات الشاعرة.
لكن يبقى السؤال: هل
نحن، في السياق الثقافي المغربي والعربي عمومًا، مستعدون لتلقي هذا النوع من النصوص؟
هل بنية التعليم، والنقد، والنشر، قادرة على مواكبة هذه التحولات؟ في رأيي، ما زلنا
في حاجة إلى إعادة النظر في مفهوم "النص" نفسه. فالنقد الأدبي الكلاسيكي،
بتقاليده البنيوية والتاريخية، قد يعجز عن قراءة النصوص الرقمية المفتوحة، تمامًا كما
قد يعجز قارئ الورق عن فهم الخريطة التفاعلية التي تقود إلى القصيدة.
ما يُغري في الشعر
الفائق، أنه يقترح أيضًا شكلًا جديدًا من الديمقراطية الإبداعية. القارئ يملك القدرة
على إعادة تشكيل النص، وكأن الشاعر يشاركه سلطة المعنى. في عصر يزدهر فيه مفهوم
"اللامركزية"، سواء في السياسة أو الفن أو التقنية، يبدو أن الشعر الرقمي
يُجسد هذا المبدأ الجذموري بكل قوة. إننا أمام قصيدة لا تعترف بالعمودية، بل تنبثق
كشبكة من العُقد النصية، حيث كل نَصٍّ قد يكون بوابةً إلى نص آخر، وكل قراءة بداية
لقراءات متعددة.
في النهاية، لا أدعي
أن الشعر الفائق سيحلّ محل القصيدة الورقية، كما أن الموسيقى
الإلكترونية لم تُلغِ
العود أو العيطة. بل أعتقد أننا نعيش في زمن تعدد الأشكال، تعدد الوسائط، وتعدد القراءات.
وما الشعر الفائق إلا أحد تجليات هذا العصر الشبكي الذي نحياه. إنني أكتبه لأبني علاقة
جديدة مع اللغة، لأُربك خطية الذاكرة، ولأدع القارئ يدخل معي في متاهة جمالية لا تُشبه
شيئًا، لكنها تَعِد بكل شيء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق