لم يعد الأدب الرقمي مجرد فن سردي جديد يسبح في فضاء التكنولوجيا، بل تحوّل إلى حلبة صراع خفي، حيث تتداخل الدوافع الجمالية مع الاستراتيجيات السياسية والنوايا الإيديولوجية. لقد أصبح بإمكان سطر قصير في لعبة تفاعلية أو فقرة مموهة في قصة مرئية أن تغيّر الرأي العام، أن تشعل ثورة أو تطفئها، أن تصنع عدوا أو تحوّله إلى بطل.
في العصر الذي تُكتب فيه النصوص لتُهاجم لا لتُقرأ فقط، تُستغل تقنيات الأدب الرقمي بشكل متزايد كأدوات دعاية خبيثة أو كمنصات لـ"الهاكتيفيزم " (Hacktivism)، حيث يختلط الفن بالسياسة، وتتداخل السرديات الفردية مع حملات التضليل الجماعي. هذه ليست مبالغة بل واقع تحذر منه مراكز أبحاث مثل "RAND Corporation" حين تحدّثت في تقاريرها عن الحروب غير المتناظرة وأساليب التأثير غير التقليدية، حيث يُستبدل البارود بالكلمات والرصاص بالمحتوى.
ولعل أبرز مثال صارخ
على هذا التحول هو استغلال الحكومات، بل وحتى الجماعات شبه العسكرية، لتقنيات القصص
الرقمية في بناء سرديات مضادة. لا نتحدث هنا فقط عن تغريدة حادة أو فيديو قصير، بل
عن ألعاب تفاعلية، روايات رقمية متعددة المسارات، أو حتى روبوتات دردشة توظف الذكاء
الاصطناعي لتوجيه رأي القارئ بشكل غير محسوس. وكأننا أمام نسخة جديدة من كتاب
"1984" لجورج أورويل، ولكن بواجهة رسومية وبقابلية التخصيص لكل قارئ على
حدة.
في هذا السياق، تُستحضر
مفاهيم من علم الإعلام مثل "النافذة الإبستيمولوجية" التي تحدد الإطار الذهني
الذي من خلاله نفهم العالم. حين يُعاد تشكيل هذا الإطار باستمرار عبر قصص رقمية جذابة
أو مؤثرة عاطفيًا، يصبح المتلقي فريسة سهلة لما يشبه غسيلًا ناعمًا للعقل. فهل نحن
أمام زمن بات فيه كل قارئ مشروع ضحية؟ كل متفاعل مشروع مؤثر؟
أذكر هنا دراسة نشرتها
جامعة ستانفورد بعنوان Digital
Propaganda and Narrative Warfare تؤكد أن التأثيرات العاطفية للأدب التفاعلي تتجاوز
أحيانًا قدرة المقالات التحليلية أو الأخبار الإخبارية على إقناع المتلقي، لأنها تدخل
إلى الوجدان لا إلى المنطق، وتزرع الشك لا عبر الحجة بل عبر الحدث الروائي المعاش في
سياق افتراضي.
حتى الجماعات الناشطة
في قضايا الحرية أو حقوق الإنسان – التي نحترم كثيرًا نضالها – لم تعد تعتمد على البيانات
أو التقارير وحدها، بل باتت توظف السرد الرقمي لتأطير نضالها. فالقصص الرقمية المصوّرة
التي تنتجها حركات مثل "Black Lives Matter" أو المحتوى القصصي الموجّه من بعض منظمات
الهجرة، تخلق نوعًا جديدًا من "السلاح السردي"، الذي لا يقتل بل يقنع، لا
يفجّر بل يربك الثوابت.
هنا تبرز إشكالية أخلاقية:
من يملك سلطة السرد؟ ومن يحق له تأطير الحقيقة؟ هل يمكن للأدب أن يتحوّل إلى سلاح دون
أن يفقد روحه الإنسانية؟ وهل على الكتّاب أن يتحوّلوا إلى مقاتلين رقميين دون أن يلوثوا
ضميرهم الجمالي؟
أمام هذا المشهد، لا
يسعني إلا أن أستحضر تحذير المفكر بول فيريليو حين قال: "كل تكنولوجيا هي في ذاتها
شكل من أشكال الحرب"، وهو تحذير ينسحب تمامًا على الأدب
الرقمي. فحين تصبح
القصة مرهونة بخوارزمية، وحين يُعاد تشكيل الحبكة تبعًا لسلوك المتلقي على الشاشة،
فإننا نتحوّل من كُتّاب إلى مصممي وعي.
لقد دخلنا إذن مرحلة
جديدة من الصراع الرمزي، حيث لا يكفي أن نكتب جيدًا، بل علينا أن نفهم خريطة المعركة،
أن نعي كيف تُبنى السرديات، وكيف تُفكّك، وكيف يمكن للنص أن يكون أداة مقاومة لا أداة
تضليل. فالكلمة لم تعد فقط وسيلة للتعبير، بل أضحت، في زمن الأدب الرقمي، قنبلة ذكية
مزروعة في الوعي الجماعي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق