حين أمسكت بكتاب»Media Ethics: Issues and Cases» للمؤلف فيليب باترسون، شعرت كأنني أفتح دفتر حسابات مهني وأخلاقي، لا للصحفيين وحدهم، بل لكل من ينتمي إلى المنظومة الإعلامية في هذا العصر الرقمي المترع بالمعلومات، والمثقل بالتحريف. الكتاب، الذي يُعد مرجعًا أكاديميًا في كليات الإعلام بالولايات المتحدة، لا يقدّم إجابات جاهزة بقدر ما يثير الأسئلة الصعبة، ويضع القارئ في موقع اتخاذ القرار ضمن مواقف افتراضية ولكنها قريبة بشكل مقلق من واقعنا اليومي.
يتميّز هذا العمل بأسلوبه
التربوي العملي، حيث لا يكتفي باترسون بتقديم نظريات مجردة حول أخلاقيات الصحافة، بل
يزرعها في أرض الواقع من خلال قضايا ودراسات حالة حقيقية أو مستوحاة من أحداث واقعية.
منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه مدعو للتفكير النقدي وليس للتلقي السلبي. فما
يطرحه الكتاب ليس مجرد مبادئ، بل تحديات تواجه الصحفيين في ميدان معقّد: هل أقدّم الخبر
كما هو أم أخفي بعض التفاصيل لحماية مصدر؟ هل أنشر صورة الضحية رغم أنها صادمة لكنها
تُجسّد المأساة؟ هل أقبل إعلانًا تجاريًا من جهة سياسية في صحيفة تُروّج للاستقلالية؟
ما يلفت النظر في الكتاب
هو بنيته المتميزة. إذ يتناول في فصوله الأولى المبادئ الكبرى لأخلاقيات الإعلام، مثل
الصدق، الاستقلالية، العدالة، والشفافية. لكنه لا يعرضها في شكل وصايا جامدة، بل من
خلال تحليل فلسفي يربطها بأسماء كبار المفكرين في الفلسفة الأخلاقية: من سقراط إلى
كانت، ومن جون ستيوارت ميل إلى جون رولز. وتلك الإحالات النظرية لا تُثقل النص، بل
تعمّقه وتمنحه أفقًا فكريًا رحبًا.
في أحد الفصول، يناقش
باترسون «أزمة الصحفي أمام مبدأ المصلحة العامة». هنا، يتساءل: هل من المشروع أخلاقيًا
أن تخترق خصوصية شخصية عامة لأن ما تكشفه قد يخدم الرأي العام؟ هذا السؤال يعيدنا إلى
جدلية قديمة/حديثة بين «الحق في المعرفة» و» الحق في الخصوصية». وتبدو هذه الجدلية
اليوم أكثر حدة في ظل اختفاء الحدود بين الصحافة التقليدية والإعلام الاجتماعي، حيث
يتحوّل كل مستخدم إلى ناقل للخبر، وغالبًا دون رقابة أخلاقية أو تحريرية.
لقد توقفت طويلًا أمام
فصل يتناول العلاقة الملتبسة بين الإعلام والإعلانات. فحين تصبح المؤسسات الإعلامية
رهينة لمموليها، يطرح الكتاب معضلة تمس جوهر المهنة: هل يمكن الحديث عن «استقلالية
الصحفي» في ظل اعتماد المؤسسات الإعلامية على تمويل تجاري مفرط؟ وكيف يمكن التوفيق
بين المردودية الاقتصادية والرسالة الإعلامية؟ يذكّرني هذا الطرح بواقع العديد من الصحف
العربية التي تضعف أمام ضغط الإشهار السياسي أو الاقتصادي، مما يجعل الخط التحريري
هشًّا وأحيانًا موجهًا.
اللافت في الكتاب أيضًا
أنه لا يتجاهل التطورات التكنولوجية، بل يُفرد فصولًا للنقاش حول الصحافة الرقمية،
وتحوّلات السلوك الأخلاقي للصحفي في بيئة لا يحكمها نفس منطق الصحافة الورقية. ما هو
معيار «الصحيح» في زمن الذكاء الاصطناعي؟ من يتحمل المسؤولية الأخلاقية إذا نشرت آلة
خبرا كاذبًا أو صورة مركبة؟ إنها أسئلة جديدة قد لا نجد لها جوابًا تقليديًا في ميثاق
الشرف الصحفي.
ربما أكثر ما أعجبني
في مقاربة باترسون هو اعتماده على ما يسمى «القرار الأخلاقي السياقي»، أي أن كل قضية
تستوجب تحليلًا خاصًا لا يمكن اختزاله في قاعدة واحدة. وهذا ما يجعل الكتاب أقرب إلى
دليل عملي حيّ، وليس إلى مدونة أخلاقيات مجردة. فعندما يضع القارئ نفسه في موقع الصحفي
أو مدير التحرير، يُضطر للتفكير لا فقط بالقانون، بل بما تمليه عليه ضمائر الأفراد،
والسياق الثقافي والسياسي الذي ينتمون إليه.
لكن، ورغم غنى المحتوى،
لا يمكن تجاهل طابع الكتاب الأمريكي-المركزي، حيث تكاد تغيب القضايا الإعلامية في الجنوب
العالمي. كقارئ مغربي وعربي، تمنيت أن أجد أمثلة من الصحافة الإفريقية أو العربية،
حيث تأخذ الأخلاقيات أبعادًا مختلفة بفعل ضغوطات سياسية وأمنية لا يعرفها الصحفي الغربي
بالضرورة. هذا الغياب يجعل الكتاب غير مكتمل من وجهة نظري، وإن كان لا يقلل من قيمته
الأكاديمية.
في النهاية، أستطيع
القول إن كتاب»Media
Ethics: Issues and Cases» ليس مجرد كتاب دراسي، بل تمرين على التفكير الأخلاقي
في عالم يزداد تعقيدًا. إنه كتاب يضع الإعلامي أمام ضميره، ويُذكّره بأن المهنة ليست
فقط ميدانًا للبحث عن السبق الصحفي، بل فضاء للمسؤولية الأخلاقية. وهي مسؤولية، إن
لم تُمارس بوعي، تحوّل الصحافة من سلطة رقابة إلى أداة تلاعب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق