في كل مرة أضع فيها هاتفي جانبًا، أشعر وكأن شيئًا ينسلخ عني ببطء، كما لو أن جزءًا مني بقي عالقًا في شاشة مضيئة، ينتظر إشعارًا جديدًا، إعجابًا آخر، أو حتى لمسة صغيرة من الاهتمام الرقمي. لم أكن أدرك في البداية أن ما أعيشه ليس مجرد عادة، بل هو ارتباط كيميائي حاد اسمه "دوامة الدوبامين"، حلقة عصبية تجرفنا دون أن نشعر نحو الإدمان، لا على المخدرات، بل على الإشعارات.
أبدأ يومي، كما يفعل
ملايين غيري، بفتح الهاتف فور الاستيقاظ. يتَسَلُّلُ الضوء الأزرق إلى عيني قبل دخول
الشمس إلى غرفتي أصبح طقسًا يوميًا. دراسة نُشرت في
Nature
Communications (2022) توضّح كيف أن التعرّض المتكرر للمحفزات الصغيرة
– كالإعجابات أو الرسائل – يُفعّل مركز المكافأة في الدماغ، المسؤول عن إفراز مادة
الدوبامين. هذا الهرمون، الذي يُطلق في أجسامنا عند الشعور بالمتعة أو التوقع، ليس
بريئًا كما يبدو. إنه البنزين الذي يغذي محرك التكرار والإدمان.
إننا نعيش اليوم في
اقتصاد الانتباه، حيث لا تُقاس القيمة بعدد المنتوجات بل بعدد الثواني التي نستطيع
فيها أسر ذهن المستخدم. التطبيقات والمواقع ليست محايدة، بل مُصمّمة لتكون مثل آلات
القمار. كما شرح ذلك تريستان هاريس، الخبير في أخلاقيات التكنولوجيا، فإنّ مهندسي الواجهات
لا يبرمجون فقط ألوانًا وتصاميم، بل يبرمجون السلوك البشري ذاته. كل سحب للأسفل في
تطبيق مثل "إنستغرام" هو مقامرة نفسية: هل ستظهر صورة ممتعة؟ تعليق محفز؟
أو لا شيء؟ التوقع نفسه يخلق المتعة، حتى قبل أن نصل إليها.
لقد قرأت مؤخرًا كتاب "Digital
Minimalism" لكالف
نيوبورت، حيث يحذر من أن تكرار الانخراط في هذا النوع من التفاعل الجزئي (micro engagement)
يشتت انتباهنا ويبدد
طاقتنا الذهنية. لم أعد أستطيع قراءة صفحة كاملة من رواية دون أن أشعر بحاجة مَرَضية
للعودة إلى الهاتف. كما لو أن عقلي لم يعد يتحمل السياق الطويل، بل يبحث عن مكافأة
فورية، حتى وإن كانت تافهة.
إن الظاهرة لا تقتصر
على الأفراد فقط، بل أصبحت تؤثر في البنية النفسية والاجتماعية للمجتمعات. في دراسة
أجرتها جامعة كوبنهاغن، تبين أن التوقف عن استخدام "فيسبوك" لمدة أسبوع واحد
فقط يرفع من معدلات السعادة والانخراط الاجتماعي الواقعي. لكننا نعود إليه، دائمًا
نعود. لأن الدوبامين لا ينسى، ولا يرحم.
لقد تغيرت طريقة تفاعلنا
مع أنفسنا ومع الآخرين. أصبحت المحادثات تُختصر في رموز، والمشاعر تُختزل في ملصقات.
حتى الحب – ذلك الشعور المعقد الذي شغل الشعراء والفلاسفة – أصبح يُقاس بعدد
"القلوب" أو الـ"Seen". إننا نحن نعيش، في رأيي، ما يشبه "تفريغًا عاطفيًا
عامًا"، حيث لم نعد ننتظر من العلاقة الإنسانية عمقًا، بل فقط تكرارًا يُرضي نظام
المكافأة في أدمغتنا.
ولا يمكننا إغفال البعد
السياسي لهذا الإدمان. إن السيطرة على الانتباه تُتيح السيطرة على التوجيه السلوكي،
وتالياً على القرار السياسي والفكري. في هذا السياق، تحذر شوشانا زوبوف في كتابها «The Age of Surveillance
Capitalism» من أن
شركات التكنولوجيا لا تسعى فقط لبيعنا منتجات، بل لبيع توقعاتنا وسلوكياتنا المستقبلية.
نحن لا ندفع المال فحسب، بل نُقدّم أنفسنا كسلعة.
ورغم معرفتي بكل ذلك،
ما زلت أسقط في الفخ. كأنني رجل يرى الحبل يلتف حول عنقه ولا يستطيع المقاومة. أعتقد
أن أول خطوة للعلاج ليست الحذف أو الابتعاد، بل الوعي. وعيٌ بأن الهاتف ليس مجرد أداة،
بل حقل كيميائي مزروع بمهارة. حين نُدرك أننا لسنا فقط مستخدمين بل مستخدمون – بالمعنيين
– يمكننا ربما أن نستعيد شيئًا من حريتنا الذهنية.
قد لا أستطيع أن أغلق
هاتفي نهائيًا، لكني أستطيع أن أبدأ في استعادته. لا كآلة، بل كخيار. أن أكون حاضرًا
في اللحظة لا في التنبيه. أن أُحب وجهًا لا صورة. أن أضحك بصوت لا برمز. وأن أستعيد
لغتي، إنسانيتي، وزمني المسلوب… ثانيةً بعد ثانية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق