لم أعد أتعرف على الوجوه. ليس لأنها تغيرت، بل لأن الواجهة التي تفصلني عنها لم تعد هي نفسها. كانت اللقاءات بين الناس تتمُّ في ما مضى عند بوابات الحارات، في المقاهي وعلى الرصيف، في الأسواق، أو في مدرجات الجامعات. أما الآن، فإن العالم يَطلُّ عليّ من خلف شاشة زرقاء، مشرقة بأيقونات وإشعارات، لكنه موحش، بدفء خافت، ضاجّ بالصور التي لا تُلامس. أشعر أنني لست وحدي في هذا الاغتراب، بل نحن مجتمع بأكمله يسير باتجاه غامض، مستسلما لآلة لا نعرف من يُسيّرها في الخفاء.
لقد انبثقت التكنولوجيا
في المغرب كرافعة للتحديث، وبدت في البداية وعدًا جميلا بدمقرطة المعرفة وتيسير الحياة.
غير أن ما بدا كخلاصٍ تحوَّل، في جوانب كثيرة، إلى قيودٍ جديدة، لا يقاس وزنها بالحديد،
بل بالوحدة. لقد أصبح الهاتف الذكي امتدادًا لليد، لا يفارق الجيب أو الكف، لكنه لا
يربطنا إلا ظاهريًّا. في العمق، أصبح كل فرد جزيرةً رقمية، يعيد تدوير نفس المحتويات،
يعرض تفاصيل حياته ويشاهد تفاصيل غيره، دون أن يلمس شيئًا منها فعليًّا. أصبح الحضور
الجسدي فاقدًا للمعنى، والمحادثات محكومة بالاختزال، وكلما اتسعت الخيارات الرقمية
ضاقت فسحة التواصل الحقيقي.
في محيطنا المغربي،
خصوصًا بين الشباب، ألاحظ تصاعد حالة اغتراب تكنولوجي لا تقل خطورة عن الاغتراب الذي
تحدث عنه "هربرت ماركوز" في سياق الصناعة الغربية. بل يمكن القول إن اغترابنا
الرقمي أشد مرارة، لأنه متقمصٌ قناع الحرية، في حين أنه في جوهره عزلة تُغلفها واجهات
براقة. إننا نُساق إلى أنماط تفكير وسلوك موحدة، نتفاعل مع نفس الأخبار، نرتدي نفس
الملابس، نلتقط الصور بنفس الزوايا، ونتبنى مواقف لا نعبر عنها بقدر ما نُستدرَج إليها.
وفي هذا السياق، لا
يمكن تجاهل تأثير خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، التي ترسم خرائط خفية لأذواقنا
وتوجهاتنا حيث يظن المستخدم المغربي العادي أنه يتصفح بحرية، بينما هو في واقع الأمر
محكوم باختيارات لم يُدرك لحظة اتخاذها. إن ما تعرضه فيسبوك أو إنستغرام أو تيك توك،
ليس صورة موضوعية للعالم، بل انعكاس لتفضيلاتك واختياراتك المتكررة، وكأن الخوارزمية
تقول لك: "ابقَ في فقاعتك، لا تغادر، لا تُفكّر".
حتى في المجال التعليمي،
الذي كان يفترض أن يكون أكثر استفادة من الرقمنة، نجد أنفسنا أمام تلاميذ وطلبة أكثر
تعلقًا بالهاتف من تعلقهم بالكتاب. لقد أصبحت الأجوبة تُبحث في "غوغل" قبل
أن يُفهم السؤال، وتحوّل الأستاذ، في أذهان البعض، إلى مجرد مُردد لمعلومات يمكن لتطبيق
ذكاء اصطناعي أن يلقيها بصوت روبوتي. هذا لا يعني أن التكنولوجيا صارت عدوا، ولكنها
حين لا تُستخدم بوعي، تتحول من وسيلة تمكين إلى آلية إفراغ.
ولعل الأخطر من كل
هذا هو تآكل العلاقات الاجتماعية في المدن الكبرى، حيث تسود الفردانية، ويُستبدل الجوار
الافتراضي بالجوار الواقعي. كما قلت زيارات الأقارب، وأصبحت التهاني تُرسل عبر
"واتساب"، والتعازي تختصرها رموز حزن، والحب يُقاس بعدد اللايكات. حتى الحنين
تغير، إذ لم يعد موجَّهًا إلى أشخاص أو أماكن، بل إلى "فترة ما قبل التطبيقات"،
تلك التي كنا نلتقي فيها بلا موعد ونفترق على وعد.
في المقابل، لا تزال
بعض المناطق في المغرب – خاصة القروية – تقاوم هذا الشكل من الاغتراب. ليس لأنها ترفض
التكنولوجيا، ولكن لأن نمط العيش هناك ما زال محكومًا بجماعية الوجود، وببطء الزمن
الإنساني. هناك، لا تزال الساحات تجمع الناس، والأسواق فضاءات للنقاش، والعيون تقابل
العيون لا الشاشات. غير أن هذا التوازن مهدد، مع تسارع تغلغل الإنترنت، والهجرة الرمزية
التي يخوضها الكثيرون نحو "عالم مثالي" داخل هواتفهم.
كيف يمكن تجاوز هذا
الاغتراب؟ لا يكفي أن نغلق الهاتف، أو نمسح التطبيقات، بل ينبغي أن نعيد التفكير في
معنى التقنية في حياتنا. كما يدعو "نيل بوستمان"
في كتابه *Technopoly*،
علينا
أن نميز بين الأدوات التي نتحكم بها، وتلك التي تتحكم بنا. وأن نربّي أبناءنا على الحضور
الذهني، على الإصغاء، على التفكير النقدي، لا على التلقف السريع للمعلومة.
إن التكنولوجيا ليست
شرًّا، بل هي مرآة لما نريده نحن. فإن كنا نرغب في حياة أكثر عمقًا، فلن نبحث عنها
على سطح شاشة. وإن كنا نريد مجتمعًا متماسكًا، فلن تبنيه منشورات متفرقة، بل لقاءات
حقيقية، وعلاقات تمتدّ في الزمان لا تُختزل في إشعار.
إن الاغتراب التكنولوجي
في المغرب ليس قَدَرًا لا يُرد، بل هو عرض من أعراض زمن متسارع، يمكن مواجهته بالفن،
بالتربية، وبالكتابة ذاتها. نعم، بالكتابة التي تستعيد الذاكرة، وتوقظ الحواس، وتمنح
المعنى للكلمات التي نكاد ننساها وسط ضجيج العالم الرقمي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق