حين صدر كتاب "السطحية: ماذا يفعل الإنترنت بأدمغتنا؟" للكاتب الأمريكي نيكولاس كار عام 2010، أحدث ضجة فكرية لم تخفت آثارها حتى اليوم، خصوصاً في أوساط الباحثين في العلوم المعرفية، وتكنولوجيا الإعلام، والنقد الثقافي. فبأسلوب رصين يجمع بين السرد الشخصي والبحث العلمي، يطلق كار ناقوس الخطر بشأن ما يسميه بـ"إعادة تشكيل جذري للعقل البشري في العصر الرقمي".
في عالم باتت فيه سرعة الوصول إلى المعلومة تطغى على عمقها، يقدّم لنا كار تأمّلاً جريئاً حول كيف غيّرت التكنولوجيا الرقمية وخاصة الإنترنت طريقة تفكيرنا، وقراءتنا، وتذكّرنا، وحتى قدرتنا على التأمل والتركيز.
ينطلق الكاتب من ملاحظة
شخصية بسيطة ولكن ذات دلالة: لم يعد قادراً على قراءة كتاب طويل بتركيز كما كان يفعل
في الماضي. وتدريجياً، بدأ يدرك أن هذا التحوّل الذهني لا يخصّه وحده، بل يشمل ملايين
البشر ممّن غيّرت الإنترنت سلوكهم العقلي والمعرفي. من هذه النقطة يبدأ الكتاب، ليأخذنا
في رحلة معرفية مثيرة عبر التاريخ والفلسفة وعلم الأعصاب وعلم النفس الإدراكي.
الفرضية المركزية التي
يدافع عنها كار هي أن «الوسيط التكنولوجي ليس مجرّد قناة حيادية تنقل المعلومة»، بل
هو عامل مؤثّر في كيفية تفكيرنا وتكوين ذاكرتنا وحتى بنية أدمغتنا. الإنترنت، كما يراه
كار، يفضّل «التشتّت والانتباه المقطّع»، ويغذّي عادة التنقّل السريع بين النصوص والروابط،
مما يضعف قدرة الإنسان على التركيز والتفكير العميق.
لإسناد هذه الفرضية،
يستند إلى بحوث علم الأعصاب المعاصرة التي تؤكد أن «الدماغ البشري يتميّز بـ"المرونة
العصبية "
(Neuroplasticity)
، أي قابليته للتشكّل بحسب التجارب والعادات الذهنية. وهذا يعني،
بحسبه، أن الاستخدام المستمر للإنترنت يعيد بالفعل تشكيل خرائط الدماغ العصبية، بحيث
تتكيّف مع نمط جديد من التفكير: سريع، تجزيئي، متقاطع، لكنه سطحي. بعبارة أخرى، الإنترنت
لا يوسّع فقط إدراكنا بل قد يفرّغه من العمق.
من أهم فصول الكتاب
ذلك الذي يعقد فيه مقارنة بين «الثورة التي أحدثها اختراع الطباعة في القرن الخامس
عشر» والثورة الرقمية المعاصرة. في الحالتين، يَظهر الوسيط (المطبعة في الأولى، والإنترنت
في الثانية) كعامل تحوّلي عميق. لكن الفارق، كما يراه كار، أن الطباعة عزّزت التفكير
الخطي والقراءة المتأنية، في حين أن الإنترنت يقودنا إلى عكس ذلك: إلى قراءة متشظية،
قائمة على المسح السريع للسطح دون الغوص في المعنى.
اللافت في أسلوب كار
هو مزجه بين التحليل الثقافي والنفسي والعلمي، فهو لا يقع في فخ التهويل ولا في التفاؤل
الساذج. بل يتبنّى «موقفاً نقدياً حذراً»، يعترف بمزايا الإنترنت (كالتواصل السريع
والوصول الهائل للمعلومات)، لكنه يدعو إلى وعي يقظ بعواقب هذا التحوّل على «العمق الفكري
والقدرة التأملية» التي لطالما شكّلت جوهر الثقافة الإنسانية.
ينتقد بعض المعلقين
على كار أنه يستحضر نوعاً من الحنين إلى عصر "الكتاب الورقي" بوصفه ذروة
النضج العقلي. ولكن الحقيقة أن نقده ليس نكوصاً إلى الماضي، بل دفاعاً عن "القراءة
العميقة" كأداة لا غنى عنها لبناء فكر متماسك وذاكرة راسخة. فبدون هذه القراءة،
كما يحذّر، نخسر ما يسميه "الانتباه المستمر"، ونصبح أسرى لـ"اقتصاد
الانتباه" الذي تحركه الخوارزميات أكثر مما تحركه الإرادة الإنسانية.
في ضوء ما نعيشه اليوم
من «هيمنة الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التخصيص، والانغماس في وسائل التواصل الاجتماعي»،
تبدو أفكار كار وكأنها كانت نبوءة مبكرة لانحدار التركيز والتفكير النقدي في ظل الاستهلاك
السريع للمحتوى.
لكن رغم هذا التشخيص
القاتم، يفتح كار في نهاية كتابه نافذة أمل: الوعي بالمشكلة هو الخطوة الأولى نحو مواجهتها.
بإمكاننا، بحسبه، «أن نعيد هندسة علاقتنا بالتكنولوجيا»، من خلال خلق مساحات للتأمل،
واستعادة قيمة البطء في التعلم، والعودة إلى القراءة بوصفها عملاً ذهنياً يتطلّب التفرّغ
والهدوء.
في النهاية، لا يدعو
كار إلى الانفصال عن التكنولوجيا، بل إلى مصالحة ذكية معها. فكما أن المطبعة لم تقتل
الذاكرة الشفهية بل أعادت تشكيلها، يمكن لنا أن نستخدم الإنترنت دون أن نقع في فخ
"السطحية". لكن ذلك يستدعي يقظة نقدية وتربية معرفية جديدة، تعلّم الأجيال
كيف تستخدم التقنية دون أن تفقد ذاتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق