الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 21، 2025

قانون «التعبئة العامة»، استباقٌ للخطر أم تأزيم داخلي مقنَّع؟ عبده حقي


صادقت السلطات الجزائرية مؤخراً على قانون «التعبئة العامة»، في خطوة تعكس ما وصفه وزير العدل عبد الرشيد طبي بـ"الحاجة الوطنية إلى إفشال كل المخططات المناوئة للبلاد ولنظامها الجمهوري". هذا القرار، في توقيته ودلالاته، يكشف عن استراتيجية جديدة تتبنّاها الدولة الجزائرية، تقوم على منطق "التحصين القانوني" لمواجهة ما تعتبره تهديدات خارجية ومؤامرات داخلية.

لكن خلف هذا الخطاب، يطرح المراقبون تساؤلات عميقة: هل نحن أمام محاولة لتعزيز السيادة والأمن الوطني فعلًا؟ أم أن الدولة تسعى لتأطير مرحلة جديدة من «الضبط العسكري والاجتماعي» في مواجهة أزمات سياسية واقتصادية خانقة، يرافقها تململ شعبي واستياء متصاعد من سياسات السلطة؟

إن قانون التعبئة العامة، كما هو متعارف عليه دوليًا، يُفعل عادة في حالة الحرب أو التهديد الوجودي، ويخوّل الدولة تجنيد الموارد البشرية والمادية للدفاع عن الوطن. غير أن اعتماد هذا القانون في الجزائر لا يأتي عقب إعلان حالة حرب، بل في وقت يسوده «الغموض الاستراتيجي» على مستوى القرار السياسي، خاصة في ما يخص العلاقة مع دول الجوار، وعلى رأسها المغرب، والتورط المتزايد في المحور الإيراني بالمنطقة.

اللافت للنظر أن القانون لا يقتصر فقط على التعبئة العسكرية، بل يشمل أيضًا جوانب اقتصادية ومدنية، بما يوحي بوجود تصور لدى القيادة الجزائرية بأن البلاد مقبلة على «مرحلة تعبئة شاملة»، تتطلب مركزية القرار والتحكم الكامل في الموارد.

تصريحات وزير العدل التي رافقت إعلان القانون، حول ضرورة إفشال "كل المخططات المناوئة للبلاد ولنظامها الجمهوري"، تعيد إلى الأذهان نفس النغمة التي تتكرر في خطاب السلطة عند كل مفترق إقليمي حرج. فمنذ اندلاع الحراك الشعبي سنة 2019، دأبت الدولة على ربط أي حركة معارضة داخلية أو موقف سياسي مستقل بمخططات "عدائية" تقف وراءها قوى أجنبية.

لكن الغموض الذي يلفّ تحديد هذه المخططات وطبيعتها ومرجعياتها، يجعل الخطاب الرسمي أقرب إلى «أداة تعبئة داخلية» تهدف إلى شيطنة الخصوم وخلق إجماع مصطنع خلف النظام، أكثر مما يُقنع الرأي العام بوجود تهديدات حقيقية محددة.

إن إقرار قانون التعبئة العامة لا يمكن عزله عن جملة من التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها الجزائر والمنطقة:

1. «التحولات الجيوسياسية في الساحل الإفريقي»: بعد انسحاب فرنسا وبروز قوى إقليمية جديدة كالمغرب وتركيا وروسيا، تجد الجزائر نفسها في موقع هشّ، وتخشى من تراجع نفوذها التقليدي في مالي والنيجر.

2. «التدهور الاقتصادي الداخلي»: رغم عائدات الغاز، يعيش الاقتصاد الجزائري حالة ركود بنيوي، مع تضخم مرتفع، بطالة متفشية، واحتقان اجتماعي يظهر في الإضرابات المتكررة والاحتجاجات الصامتة.

3. «الخوف من تكرار سيناريو الحراك الشعبي»: لا تزال الذاكرة السياسية للسلطة مشحونة بتجربة الحراك، وما خلفته من اهتزاز في شرعية النظام. ويبدو أن القانون يأتي كجزء من خطة استباقية لقطع الطريق أمام أي انتفاضة جديدة قد تندلع مع اشتداد الأزمات.

4. «الارتهان لمحور دولي جديد»: انخراط الجزائر في تحالف غير معلن مع إيران وبعض قوى "الممانعة"، خاصة في ضوء التصعيد الإيراني الإسرائيلي، يثير قلق دوائر القرار في الغرب، وهو ما قد يفسّر جزئيًا تشديد الجزائر على خطاب "السيادة" و"مكافحة المؤامرات الخارجية".

من منظور رسمي، يبدو قانون التعبئة العامة أداة لتعزيز الدولة أمام التحديات الخارجية. لكنه، من منظور أوسع، يعكس ارتباكًا داخليًا عميقًا ورغبة في إعادة إنتاج الدولة الأمنية من بوابة "القانون". الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في فرض قانون يشرّع استدعاء المدنيين والموارد، بل في ترسيخ منطق الطوارئ كأداة دائمة للحكم، بما يعمّق الهوّة بين السلطة والشعب، ويجعل من أي محاولة سلمية للتغيير السياسي هدفًا لـ"التعبئة المضادة".

في النهاية، لا يواجه النظام الجزائري خطرًا من الخارج فقط، بل يواجه أولًا «أسئلة الداخل الكبرى»: شرعية الحكم، توزيع الثروة، حرية التعبير، والحاجة إلى عقد سياسي جديد أكثر عدالة وشمولًا. التعبئة الحقيقية التي تحتاجها الجزائر، هي تعبئة نحو مستقبل ديمقراطي، لا نحو "جمهورية الخوف".

0 التعليقات: