الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 02، 2025

رواية أنس ناصيف الأولى: عندما يثور الجسد بصمت ويكتب روايته الخاصة


بالتزامن مع انعقاد معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، أصدرت "دار الآداب" في لبنان عملاً روائياً أولاً للكاتب السوري أنس ناصيف يحمل عنوانًا لافتًا ومثيرًا للتأمل: إضراب فيزيولوجي. هذا العمل ليس فقط دخولاً أدبياً جديداً في المشهد الروائي السوري، بل هو إعلان تمرد غير تقليدي على صمت الأجساد المقهورة، إذ تجعل الرواية من الجسد ساحة للنضال حين يعجز الصوت عن الكلام.

في تقديمها للرواية، تصف "دار الآداب" حكاية البطل ضرار الذي يُعتقل على خلفية مشاركته في مظاهرات سياسية، ويُزجّ به في غياهب السجن، ليخرج بعد شهور مثقلاً بالتجربة، محاولاً العودة إلى حياته السابقة. غير أن ما يبدو ظاهرياً عودة إلى "الحياة العادية"، لا يلبث أن يتحوّل إلى انكشاف لعطب عميق: فالنفس قد أُخضعت بالقوة، بينما الجسد يرفض الطاعة، ويبدأ في التعبير عن مكبوتاته عبر سلوكيات خارجة عن المألوف، فيها الكثير من الغرابة والفانتازيا، وكأن أعضاء الجسد قررت أن تنطق بدلًا من الروح التي تم خنقها في غياهب التحقيق والتعذيب.

بهذا التناول، لا تكتفي الرواية بطرح قصة سجين سابق، بل تقدم تأملًا أدبيًا في فكرة الانقسام الداخلي، حين تنفصل إرادة الجسد عن إرادة العقل، وتصبح الأعضاء شاهدة ومشاركة في لحظة انفجار نفسي مؤجل. تسير الرواية على حافة الجنون والرمز، وتفكك السلطة ليس فقط كواقع سياسي، بل كعلاقة خفية بين النفس وجسدها، بين الألم وتجلياته الصامتة.

أنس ناصيف، مؤلف الرواية، ليس جديداً على الكتابة الأدبية. فهو خريج الفلسفة من جامعة دمشق، وحاصل على درجة الماجستير من معهد الدوحة للدراسات العليا. سبق له أن نشر مجموعتين قصصيتين لاقتا اهتماماً نقدياً ملحوظاً. الأولى، عندما كان هنالك مكان للصراخ، صدرت سنة 2018 عن دار ميسلون وفازت بجائزة الأصفري للثقافة التي تمنحها الجامعة الأميركية في بيروت سنة 2019. أما مجموعته الثانية، ماوية: قصص باتجاه واحد، فقد نُشرت عن "منشورات المتوسط" عام 2024، وأكدت انتقاله من القصة القصيرة إلى فضاءات أوسع وأكثر تجريبًا في اللغة والموضوع.

ومن بين المقاطع اللافتة في الرواية، يبرز هذا المشهد المؤلم الذي يصف لحظة الاستجواب داخل المعتقل، حيث الزمن نفسه يصبح أداة قمع:

«يعلم السجين أن سكوت المحقق وانهماكه في العمل أسلوب هدفه إتاحة الوقت لأنياب القلق كي تنهش روحه كما يحلو لها...»

بهذه اللغة الكثيفة والمشحونة، ينجح ناصيف في تصوير ما يُسمّى بـ"الإعدام البطيء للذات"، حيث لا يتطلب الأمر أدوات تعذيب بقدر ما يكفي بالصمت والإذلال ليتحول الإنسان إلى ما يشبه الظل أو المسودة القديمة لحياته الماضية. في هذه اللحظة، لا يكون المعتقل هو نفسه الذي دخل الزنزانة، بل شخصًا آخر مشوّهًا، لا يحمل من ماضيه سوى رؤوس أقلام باهتة.

الرواية، في جوهرها، ليست شهادة فقط على تجربة الاعتقال، بل هي سردية من نوع آخر: عن الخلل الخفي الذي يحدث عندما يُقمع التمرد في داخلك، فيتسلل الجسد فجأة ليمارس دوره كمتمرد، كأن يتكلم الجلد، أو تعصي العضلات، أو يرفض الجهاز العصبي الانصياع. هذا "الإضراب الفيزيولوجي" هو في النهاية مظهر من مظاهر الإنسانية حين تُزاح عن الروح إنسانيتها.

إضراب فيزيولوجي ليست رواية عن السياسة، بل عن أثرها المتجذر في أجسادنا، عن صوت الصمت حين يصير أكثر بلاغة من أي خطاب. وهي دعوة مفتوحة للقراء لأن يعيدوا التفكير في معنى القهر، ومعنى المقاومة، ليس باللافتة أو الشعار، بل بارتعاشة يد، أو ارتباك في نظرة، أو ألم عضلة لا يفسره الطب.


0 التعليقات: