في إصدار ثقافي مثير للجدل، طرحت الكاتبة والباحثة التركية بيرين بيرسايغلي موت مؤلفها الجديد تحت عنوان "نشأة الصهيونية الأدبية"، والذي تتناول فيه بالدراسة والتحليل مساهمة ثلاثين كاتبًا وشاعرًا في صياغة ما تصفه بـ"السردية الصهيونية الجماعية"، التي لم تكن، في نظرها، مجرد انعكاس لأيديولوجيا سياسية، بل كانت قوة فاعلة في تأسيسها وترويجها وتثبيتها في الوعي العالمي.
تشير الباحثة في مقدمة كتابها إلى أن إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 لم يكن حصيلة تطورات سياسية فحسب، بل كان ثمرةً لصراع طويل في ميدان الأدب والفكر والثقافة. فالنصوص الأدبية – من روايات وقصائد ومسرحيات – لم تكن في الهامش، بل في قلب المشروع الصهيوني، إذ تولّت مهمة إعادة تشكيل الوعي، وبناء صورة مغايرة عن الأرض والتاريخ والسكان، صورة تصبّ في هدف أساسي: تقديم فلسطين كأرض بلا شعب، أرض تنتظر "العودة" إليها، ولو كذبًا.
الكتاب يرصد الأدوار المتنوعة التي لعبها الكتّاب الصهاينة الأوائل، ليس فقط في التأليف بل في إنشاء مؤسسات إعلامية ونشرية – صحف، مجلات، دور نشر – شكلت منصات مركزية لبث سردية تبريرية، أضفت طابعًا شرعيًا على طموح سياسي عنيف. وتشمل فصول الكتاب محطات محورية: نشأة الأدب الصهيوني، أبرز رموزه، وتطوره حتى لحظة إعلان الدولة.
من خلال تحليل نماذج أدبية متعدّدة، تسلط بيرسايغلي موت الضوء على كيفية تسويق صورة "الإنسان اليهودي الجديد" في المسرح، وأسطورة "العودة" في القصائد، وتحولات الهوية في الروايات. وتكشف عن كيف تم استخدام الأدب لتهميش الوجود الفلسطيني، ومحوه رمزيًا من النصوص، تمهيدًا لمحوٍ فعلي من الخريطة السياسية.
وفي سؤالها الجوهري، تختم الباحثة كتابها بتأملات نقدية: إذا تحولت الكتابة إلى أداة لصناعة الزيف، وإلى أداة إقصاء لشعب كامل من حقه في الذاكرة، فهل يمكن أن نواصل اعتبارها أدبًا؟ أم أنها تصبح وثيقة أيديولوجية مجردة من بعدها الإنساني؟
"نشأة الصهيونية الأدبية" ليس فقط مساهمة في نقد السرديات المهيمنة، بل دعوة لإعادة النظر في الدور الأخلاقي للأدب، عندما يتحول إلى سلاح ناعم لشرعنة الاستعمار وتزييف التاريخ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق