الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 02، 2025

هل تكون البلوكشين طوق نجاة شبكات التواصل الاجتماعي؟ عبده حقي


كنت دائمًا مشدودًا إلى تلك اللحظة التي يتحول فيها المستخدم من مجرد رقم في قاعدة بيانات عملاقة، إلى كيان رقمي حر، له سيادة فعلية على هويته وبياناته. في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، حيث نعيش حياتنا المصغّرة عبر خوارزميات لا نراها، بدا لي أن التكنولوجيا التي كانت من المفترض أن تحررنا، قد قيدتنا بسلاسل ناعمة من التتبع والمراقبة والاعتماد الكامل على وسطاء رقميين عابرين للقارات. وفي خضم هذه التناقضات، برزت أمامي تقنية البلوكشين لا كموضة تكنولوجية عابرة، بل كإمكانية فلسفية لإعادة التفكير في ماهية التواصل، والمجتمع، والحرية.

البلوكشين، هذه التقنية التي تأسست كعمود فقري لعملة البيتكوين، لم تُعدّل فقط مفهوم الثقة في المعاملات المالية، بل عرضت علينا نموذجًا جديدًا للحقيقة الرقمية: الحقيقة التي لا تمر عبر بوابة مركزية ولا يمكن تزييفها أو احتكارها بسهولة. في عالم الشبكات الاجتماعية، حيث باتت الخوارزميات تقرر من نرى وماذا نقرأ، تبدو هذه التقنية كمشروع فكري أكثر منه مشروعًا هندسيًا. ماذا لو لم نكن مضطرين بعد اليوم إلى تسليم بياناتنا طواعية إلى شركات تضع أرباحها فوق أي اعتبار؟

منذ سنوات، بدأت تظهر شبكات اجتماعية مبنية على تكنولوجيا البلوكشين، مثل Steemit وLens Protocol  هذه التجارب، رغم محدوديتها، تعلن عن ميلاد فلسفة جديدة: المستخدم ليس مجرد "محتوى"، بل مساهم حقيقي يمتلك حصته في المنصة التي يستخدمها. في Steemit مثلًا، تتم مكافأة المستخدمين بعملات رقمية مقابل منشوراتهم، والمكافآت لا تأتي من المعلنين بل من المجتمع نفسه، عبر نموذج اقتصادي موزّع يحدّ من تحكّم جهة واحدة بالسردية أو الربح.

الأمر ليس خاليًا من التحديات، ولا أزعم أن البلوكشين هو عصا سحرية ستحل كل مشاكل فيسبوك وتويتر وإنستغرام، من خطاب الكراهية إلى الإدمان الرقمي. لكن ما تقترحه هذه التكنولوجيا هو إعادة توزيع السلطة على نحو جذري، أقرب إلى نموذج “الديمقراطية المشفّرة” التي تحدث عنها الباحث جوليان أسيان في مجلة MIT Technology Review  فبدلاً من أن تكون السلطة في يد مجلس إدارة شركة ما، تصبح موزعة بين آلاف أو ملايين المستخدمين عبر العقود الذكية وسلاسل الكتل الشفافة.

وهنا، أستحضر المفكر الكندي مارشال ماكلوهان حين قال إن "الوسيط هو الرسالة". في زمن البلوكشين، الوسيط نفسه يُعاد تشكيله. لم نعد نتحدث عن واجهات الاستخدام فحسب، بل عن البنية التحتية للثقة، وعن كيفية إنتاج وتوزيع المعنى. الشبكة لم تعد مرآة مشروخة نرى فيها أنفسنا كما تريد لنا الشركات الكبرى، بل أصبحت مرآةً موزّعة، تتيح لكل فرد أن يكون جزءَا من السياق، لا ضحيةً له.

وقد كان لافتًا ما أشارت إليه دراسة حديثة صادرة عن جامعة أكسفورد حول مستقبل الإنترنت اللامركزي، إذ اعتبرت أن "البلوكشين لا يعيد تشكيل البنية التحتية للويب فحسب، بل يعيد تعريف مفاهيم مثل الخصوصية، الهوية، والملكية الرقمية". هذه المفاهيم التي تآكلت في زمن "الاقتصاد المجاني"، حيث ندفع خصوصيتنا ثمناً لما نعتقد أنه مجاني.

في تجربتي كباحث مغربي يتابع بقلق التحولات الاجتماعية التي تصاحب المنصات الرقمية، أجدني اليوم أمام سؤال أخلاقي وليس تقنيًا فقط: هل نملك الشجاعة للتخلي عن رفاهية الخدمات السهلة من أجل حريات رقمية مستعادة؟ هل نستطيع –كمجتمعات عربية– أن نستثمر في تطوير شبكات لامركزية، لا كمجرد رد فعل على الرقابة، بل كمشروع سيادي ينسجم مع نداءاتنا للكرامة والعدالة الرقمية؟

لسنا بحاجة إلى معجزة تكنولوجية، بل إلى إرادة فكرية وإبداع مؤسساتي. تخيّلوا مثلًا أن تُطلق مؤسسة مغربية أو عربية شبكة تواصل مبنية على البلوكشين، يتم فيها تسجيل كل تعديل أو قرار بطريقة شفافة، ويُمنح المستخدمون الحق في التصويت على سياسات المحتوى. أليس هذا أقرب إلى نموذج ديمقراطي رقمي مما نعيشه الآن في ظل خوارزميات لا نعرف عنها شيئًا سوى ما تمليه علينا نتائجها؟

تجربة البلوكشين في الشبكات الاجتماعية ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها. إنها لحظة للتأمل في من نكون، وكيف نحب أن نتواصل، ومن يملك مفاتيح وجودنا الرقمي. وكما حرر الطباعة الإنسان من احتكار الكلمة، قد تحررنا البلوكشين من احتكار المنصات. لكن علينا أن نكون مستعدين لفهم هذا التحول، لا كتقنيين فقط، بل كفلاسفة رقم.

وفي انتظار ذلك، أعود لأطرح على نفسي نفس السؤال كل مرة أفتح فيها تطبيقي المفضل: هل أنا مستخدم... أم مُستخدَم؟

0 التعليقات: