في الجزائر، لا تحتاج إلى عدسة مكبرة كي ترى المأساة. يكفي أن تنصت لصوت طفلة تبكي أباها المعتقل ظلماً، أو لامرأة تستغيث على شبكات التواصل، أو لوجه شاب خرج يوماً يؤمن بالتغيير، فإذا به يزجّ في السجن بتهم ملفقة وبلا محاكمة عادلة. لا شيء في هذه البلاد أصعب من أن تطالب بحقك، وتُعاقب لأنك حلمت فقط بوطن يتسع للجميع، وطن لا يعتقل أبناءه لأنهم عبروا عن رأي أو منحوا توقيعاً.
في بلد كان يُقال إنه
تجاوز سنوات الجمر، تعود الأبواب لتُغلق من جديد، لكن هذه المرة بصمت مدوٍ. المحاكم،
تلك التي كان يفترض بها أن تكون حامية للمظلوم، تحوّلت إلى ساحات تُدار فيها القضايا
كما تُدار الملفات الإدارية: بلا أدلة، بلا شهود، وبأحكام جاهزة تصدر في لمح البصر.
المشهد أكثر من مأساوي.
أكثر من 85 مواطناً، بينهم منتخبون ومواطنون عاديون، يقبعون في السجون على خلفية ما
يسمى بـ"ملف الاستمارات". لا دليل يدينهم، لا شكاوى من متضررين، لا طرف مدني،
فقط محاضر وتحقيقات هجينة، وأقوال انتُزعت تحت التهديد وربما ما هو أفظع. ويكفي أن
ترى الأحكام لتدرك أن ما يجري لا يمت للعدالة بصلة: عشر سنوات نافذة ضد شخصيات سياسية
لم تفعل سوى دعم مرشح رئاسي، ولم يُضبط أحدهم متلبساً برشوة أو تزوير أو تمويل غير
مشروع.
اللافت ليس فقط الأحكام،
بل ما خلّفته من جراح اجتماعية لا تندمل. أطفال فقدوا آباءهم قبل الامتحانات، زوجات
يتحملن العبء وحدهن، وأسر بأكملها دخلت في دوامة نفسية واجتماعية لم تكن تتوقعها. إحدى
الطفلات نشرت رسالة مؤثرة على "تيك توك" تطالب فيها الرئيس بالتدخل لإطلاق
سراح والدها، لا لشيء، فقط ليكون معها في أول أيام الامتحان. هذا المشهد وحده، يكفي
لإدانة منظومة بأكملها.
هناك من يقول: لا تبالغوا،
الجزائر تغيرت. لكن حين تكون تكلفة دعم مرشح انتخابي هي سنوات من الحبس، دون دليل،
فبماذا نُسمي هذا؟ هل هو تجريم للنوايا؟ أم معاقبة على المشاركة في الحياة السياسية؟
هل المطلوب من الناس أن تصمت وتنتخب من يُطلب منها انتخابه فقط؟ أين هي القوانين التي
تُجرّم جمع توقيعات أو دفع مصاريف حملة بسيطة؟
سعيدة نغزة، التي أصبحت
رمزاً لهذه القضية، روت ما لا يصدق. ابنها الذي عاد من شهر العسل حُكم عليه بخمس سنوات،
فقط لأنه نجل مرشحة. ابن آخر، كان خارج البلاد منذ أكثر من سنة وقت ارتكاب "الجرم
المزعوم"، نال ثماني سنوات. والابن الثالث، مريض، خرج من رحلة علاج ليجد نفسه
خلف القضبان. أي منطق هذا؟ أي قانون؟ أي ضمير؟
المأساة الحقيقية ليست
فقط في الأحكام، بل في الطريقة التي يتعامل بها المحيط الرسمي مع هذه القضايا. لا توضيحات،
لا تفسيرات، لا استجابة لأي نداء من العائلات، ولا اعتراف بأن هناك خللاً يجب إصلاحه.
العائلات فقدت كل وسيلة للترافع سوى منصات التواصل. هناك، تبث دموعها وآلامها، وتراهن
على شيء من ضمير عام قد يكون أكثر عدالة من مؤسسات الدولة.
والأدهى أن كل ذلك
يحدث في مدن مهمشة، في أعماق الجزائر المنسية، حيث الناس لا يملكون إلا براءتهم وفقرهم
ونيّتهم الطيبة. ليسوا سياسيين محترفين، ولا أصحاب شبكات نفوذ، بل مجرد جزائريين صدقوا
أن الدولة قد تغيرت، وأن زمن الإقصاء انتهى، وأن الحلم بالمواطنة الكاملة صار ممكناً.
لكن الواقع كان أقسى من خيالهم.
حين يصبح الدفاع عن
شخص ما جريمة، وحين يُزج بك في السجن لأنك لم تختر المرشح "الصحيح"، فما
الحاجة إذًا إلى انتخابات؟ لِمَ لا نُعلنها بوضوح: لا مكان هنا لغير صوت السلطة؟ لِمَ
لا نكفّ عن التمثيل؟ إن إيهام الناس بأنهم أحرار، بينما يُعتقلون بسبب اختيارهم، هو
من أقسى أشكال الخداع.
الجزائر اليوم ليست
فقط تعاني من الظلم، بل من إنكار الظلم. من غياب صوت العقل والرحمة. من التواطؤ مع
الصمت، والتواطؤ مع اليأس. وإن لم تُراجع هذه السلطة نفسها، وتُعيد الاعتبار للضحايا،
فسنكون بصدد نزيف أخلاقي لن يتوقف.
هذا ليس نداء سياسياً،
بل صرخة إنسانية من عمق القهر. أوقفوا هذه المحاكمات. أعيدوا الأمل إلى الأطفال الذين
ينتظرون آباءهم في فصول الامتحانات. أعيدوا للعدالة معناها، قبل أن تصبح مجرد كلمة
مهجورة لا تحمل سوى مرارة الذكرى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق