لا يمكن للباحث في الجغرافيا السياسية لمنطقة المغرب الكبير، ولا المتابع لمسار نزاع الصحراء ، أن يمر مرور الكرام على الموقف البريطاني الصادر في فاتح يونيو 2025 دون الوقوف عند دلالاته العميقة وأبعاده الاستراتيجية. لقد اختارت المملكة المتحدة أن تضع نفسها، رسميًا وبوضوح غير مسبوق، في صف الدول الداعمة لخطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب منذ عام 2007، باعتبارها الحل "الأكثر مصداقية" و"واقعية" للنزاع الإقليمي المستمر منذ نحو نصف قرن.
إن تصريح وزير الخارجية
البريطاني ديفيد لامي من العاصمة الرباط، وإعلانه هذا الدعم في بيان مشترك مع نظيره
المغربي، ليس تفصيلاً دبلوماسيًا معزولًا. إنه انتقال نوعي يعكس ملامح تحول جيوسياسي
في الموقف البريطاني، المتردد منذ عقود، تجاه النزاع. بريطانيا، القوة الاستعمارية
السابقة التي كانت منذ نصف قرن تتخذ مسافة محسوبة من هذا الملف، باتت اليوم تُدرجه
في أولويات شراكتها الاستراتيجية مع المغرب، أحد أبرز حلفائها في الجنوب المتوسطي.
في هذا الموقف الجديد،
تلتقي السياسة البريطانية مع توجهات قوى دولية أخرى، كالولايات المتحدة، إسبانيا، ألمانيا
وهولندا، التي سبقت إلى تأييد مقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره مقاربة تنبني على
الواقعية السياسية والحفاظ على الاستقرار الإقليمي. وإذا كانت مواقف تلك الدول قد تدرجت
خلال سنوات، فإن الموقف البريطاني يبدو وكأنه قفزة دبلوماسية وازنة لا تخلو من رمزية،
خصوصًا إذا قرأناه في سياق ما بعد "بريكسيت"، حين حاولت لندن إعادة تعريف
مصالحها وتحالفاتها خارج الفضاء الأوروبي.
التحول البريطاني يكتسب
أبعادًا إضافية حين يُنظر إليه من زاوية التوازنات المغاربية. فقد جاءت الخطوة في توقيت
بالغ الحساسية، وفي وقت تُبدي فيه الجزائر انزعاجًا متزايدًا من تقهقر دعم بعض العواصم
الغربية للأطروحة الانفصالية التي تتبناها البوليساريو. لم يتأخر الرد الجزائري طويلًا،
إذ عبّرت صحف قريبة من دوائر القرار في الجزائر عن "غضب" إزاء الخطوة البريطانية،
معتبرة إياها انحيازًا مفضوحًا ضد ما تسميه "حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير".
غير أن هذا الغضب لا
ولن ُيغيّر في المعادلة كثيرًا، بل يعكس إلى حد بعيد حالة العزلة التي باتت تطوق أطروحة
الجزائر وصنيعتها البوليساريو، خاصة في ظل تزايد عدد الدول التي فتحت قنصلياتها في
مدن العيون والداخلة بالصحراء المغربية، كاعتراف عملي بمغربية الصحراء. فالشرعية اليوم
تُقاس بالفاعلية والواقعية، لا بالشعارات الجوفاء. والمقترح المغربي، كما أكدت ذلك
الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة، يتناغم مع مبادئ الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة
الوطنية، وهو ما يجعل منه حلاً قابلًا للتطبيق لا مجرد شعار أيديولوجي.
في الواقع، يبدو أن
لندن لم تُقدم على هذه الخطوة إلا بعد قراءة معمقة لتطورات المشهد في شمال إفريقيا،
وبعد إدراكها للمكانة التي يحتلها المغرب كفاعل محوري في قضايا الأمن، الهجرة، ومحاربة
الإرهاب، إضافة إلى كونه بوابة اقتصادية واعدة نحو إفريقيا. وقد يكون للتقارب المغربي-الإسرائيلي
بعد اتفاقيات أبراهام دور في تعزيز الشراكة المغربية مع قوى غربية كبرى، ومنها بريطانيا،
خاصة في ظل سعيها إلى توسيع آفاق نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في المنطقة.
ولا يمكن أن نغفل في
هذا السياق أهمية الجانب القانوني والشرعي الذي أشار إليه البيان البريطاني، حين اعتبر
خطة الحكم الذاتي الأساس "الأكثر مصداقية" لحل النزاع. فهذا التوصيف ليس
مجرد مجاملة دبلوماسية، بل هو إعادة تموقع صريح ضمن الموقف الدولي المتنامي الذي بات
يعتبر أن الاستفتاء لم يعد خيارًا واقعيًا، وأن الانفصال لا يتوافق مع الاستقرار الجيوسياسي
في المنطقة.
إن الخطوة البريطانية
تفرض على الجزائر مراجعة مواقفها المتصلبة، كما تفرض على جبهة البوليساريو التفكير
بجدية في مآلات خطابها الانفصالي. فكل المؤشرات تدل على أن رياح الشرعية الدولية بدأت
تميل أكثر نحو مشروع الحكم الذاتي، لا لأن المغرب يفرضه بالقوة، بل لأنه يطرحه منذ
سنوات بمنطق الحوار والانفتاح، ويُرفقه بسياسات تنموية واقعية في الأقاليم الجنوبية
أثبتت نجاعتها ميدانيًا.
في النهاية، إن ما
وقع في فاتح يونيو 2025 هو شهادة دولية من قوة عظمى في المشهد العالمي، تؤكد أن مغرب
اليوم هو شريك موثوق، وأن مشروعه في الصحراء ليس مشروع هيمنة بل مشروع استقرار. وقد
آن الأوان، كما يبدو، لأن تُرفع رايات الواقعية السياسية فوق شعارات الماضي، ولتتحول
المواقف الرمادية إلى مواقف مسؤولة تعترف بحقائق الجغرافيا، وتُراعي مصالح الشعوب المغاربية
في الأمن والتنمية والتكامل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق