الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 02، 2025

الجزائر وفرنسا: صراع النفوذ من السفارات إلى الصحراء المغربية: عبده حقي


عاد التوتر بين الجزائر وفرنسا إلى الواجهة، وهذه المرة من بوابة السفارات والعقارات الدبلوماسية، حيث كشفت مصادر جزائرية عن إجراءات مرتقبة لتقليص المساحات الممنوحة للبعثات الفرنسية على الأراضي الجزائرية. وعلى الرغم من أن الخطوة تبدو إدارية الشكل، إلا أنها تعبّر في العمق عن تصعيد دبلوماسي صامت ومتواصل بين بلدين يشتركان في ماضٍ استعماري ثقيل، ويفترقان أكثر فأكثر في الحاضر، لا سيما بعد الاعتراف الفرنسي بسيادة المغرب على الصحراء.

فمنذ أزمة 2021 التي أشعل فتيلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريحاته المسيئة للتاريخ الجزائري الرسمي، لم تنجح المبادرات المتبادلة في ترميم الثقة بين الجزائر وباريس. بل ازدادت الهوة عمقًا، خصوصًا بعد أن أقدمت باريس، في تحول دبلوماسي بالغ الدلالة، على إعلان دعمها العلني والصريح لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء الغربية، ما اعتبرته الجزائر طعنة مزدوجة: دبلوماسية تجاه حليفتها جبهة البوليساريو، واستراتيجية تجاه نفوذها الإقليمي.

ضمن هذا السياق المحتقن، تندرج الإجراءات الجزائرية الأخيرة المتعلقة بتقليص العقارات الدبلوماسية الفرنسية. إذ لا يمكن فصلها عن الرغبة الجزائرية في الرد، بطريقة غير مباشرة، على الاعتراف الفرنسي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. فالعقارات والسفارات لم تعد فقط مواقع إدارية، بل تحولت إلى رموز سيادة وتوازن رمزي في لعبة العلاقات الدولية. وعليه، فإن تقليص حجم الحضور الفرنسي في الجزائر، ولو رمزياً، يُفهم بوصفه ردًّا على تقليص باريس لموقع الجزائر في معادلة المغرب العربي.

ويأتي هذا التطور في لحظة دقيقة، تتزامن مع إعادة تشكل التحالفات في شمال إفريقيا. فالجزائر، التي تعزز شراكاتها مع موسكو وبكين، تحاول تقليص اعتمادها على فرنسا والتخلص من إرث العلاقة غير المتكافئة. ومن جهة أخرى، فإن باريس لم تعد تتحمل كلفة الانخراط في علاقات رمادية مع أنظمة لا تشاطرها الرؤية الاستراتيجية، خاصة في ملفات كبرى كالهجرة والطاقة والذاكرة التاريخية. ويبدو أن باريس اختارت أن تنحاز بوضوح إلى الرباط، ليس فقط من منطلق المصالح الاقتصادية، بل أيضاً انطلاقاً من الرغبة في دعم شريك "مستقر وفعّال"، حسب تعبير دوائر فرنسية.

ولا يُخفى أن ملف الصحراء المغربية أصبح منذ 2020 مؤشراً دقيقاً على تموضع الدول في الخريطة السياسية للمغرب العربي. فبينما تنضم دول أوروبية وأفريقية وأمريكية إلى دائرة الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، تصر الجزائر على تأبيد مشروع الانفصال، ولو على حساب علاقاتها الخارجية. بل إن تصعيدها الأخير ضد فرنسا يبدو موجهاً أيضاً إلى الداخل الجزائري، في محاولة لتأكيد السيادة واستعادة المبادرة الرمزية، بعد اهتزازات سياسية واقتصادية أضعفت صورتها الإقليمية.

من جهة ثانية، لا يمكن إغفال البعد القانوني في هذا التصعيد. فبينما تحتمي الجزائر بـ«اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية» لتبرير إعادة هيكلة العقارات، قد تلجأ فرنسا إلى الضغوط المتاحة، سواء عبر القانون الدولي، أو عبر تقليص برامج التعاون، أو حتى عبر استخدام ورقة النخب الجزائرية المرتبطة بها ثقافياً واقتصادياً، لا سيما في مجالات التعليم والهجرة والصحة. كما أن باريس قد ترى في هذه الإجراءات فرصة للانسحاب التدريجي من علاقة أصبحت مكلفة سياسياً ولا تُنتج مكاسب استراتيجية.

أما على مستوى الرأي العام، فإن هذه الخطوة قد تلاقي تجاوباً في الجزائر الرسمية، لكنها في المقابل ستكرّس صورة الجزائر كطرف "منفعل" أكثر منه "مبادر"، في وقت تكسب فيه الرباط نقاطًا دبلوماسية متتالية، مدعومة بشبكة حلفاء تمتد من واشنطن إلى باريس، ومن مدريد إلى بروكسيل.

في النهاية، يبدو أن النزاع حول العقارات الدبلوماسية ليس سوى واجهة أخرى لصراع أعمق على رمزية النفوذ في شمال إفريقيا. إنه صراع تُرسم خطوطه في الصحراء، وتُعبر عنه السفارات، وتنعكس نتائجه على مستقبل التحالفات المغاربية. ففي الوقت الذي تختار فيه فرنسا تموقعها بوضوح خلف مقترح الحكم الذاتي المغربي، ترد الجزائر بإغلاق الأبواب، وتضييق المساحات، في محاولة لإعادة التوازن في معادلة بدأت ترجح كفّتها لصالح الرباط.

0 التعليقات: