في عصر الصورة السريعة والفلاتر المتغيرة، لم تعد الثقافة محفوظة داخل حدود جغرافيتها أو محاطة بسياقاتها الأصلية، بل أصبحت معروضة على واجهات رقمية مشرعة لكل من أراد أن يلتقطها، يلبسها، يقلدها، أو حتى يسوّقها دون رجوع إلى جذورها. وهكذا، دخلنا زمناً تتداخل فيه نوايا التقدير مع شُبهات الاستيلاء، حيث لم يعد ممكناً فصل الحفاوة بثقافة الآخر عن محاولات تهميشه أو تزييفه، خاصة في فضاء بصري تهيمن عليه منصات مثل إنستغرام.
إن مفهومي «الاستيلاء
الثقافي» (Cultural Appropriation) و»التقدير الثقافي» (Cultural
Appreciation) لطالما أثارا نقاشاً عميقاً في الأدبيات الأنثروبولوجية
والنقد الثقافي، غير أن التحول الرقمي قد زاد الأمر التباساً وتعقيداً. ففي السابق،
كان التفاعل مع الثقافات الأخرى يمر عبر بوابات المعرفة، السفر، الترجمة، أو التفاعل
البشري المباشر، أما اليوم، فإن “الإعجاب” أو “إعادة النشر” كافيان لنقل طقس مقدس،
أو لباس تقليدي، أو رقصة لها جذورها التاريخية، إلى جمهور عالمي لا يعرف من القصة سوى
الصورة.
لنأخذ على سبيل المثال
الانتشار الواسع لعبارات “مستوحى من الثقافة المغربية” أو “ستايل بوهو شرقي” في وصف
الأزياء والديكورات عبر إنستغرام وتيك توك. كم مرة يتم فيها ذكر الأمازيغ أو اليهود
المغاربة أو الصناع التقليديين الذين نسجوا هذه الأقمشة وابتكروا هذه التصاميم؟ نادراً.
وكما تشير الكاتبة “روكسان غاي Roxane Gay، فإن “الاستيلاء لا يكمن
في الإعجاب بما هو مختلف، بل في محو الاختلاف بعد الاستفادة منه”.
لقد شكلت الموضة أحد
أبرز الميادين التي تجلت فيها هذه الإشكالية. فحين ترتدي مؤثرة أوروبية قفطانًا مغربيًا،
أو يضع مغني بوب أمريكي ريشة هندية على رأسه، فإن التلقي ينقسم بين من يراها لفتة احترام
وتقدير، ومن يراها سرقة علنية دون اعتراف بالأصل. وهنا يظهر البُعد الأخلاقي للقضية:
هل يكفي أن نقول “أحببت هذا الزي” دون أن نقر بتاريخه، وظروف صناعته، ومعاناته الطويلة
مع الاستعمار أو التهميش؟
وفي هذا السياق، تشير
الباحثة “بل هُكس”
(bell hooks) في مقالاتها
حول “الآخر كزينة” إلى أن الثقافة المهيمنة كثيراً ما تعيد إنتاج الآخر بطريقة تجعلها
تتحكم في رموزه، وتفرغه من مضامينه السياسية والاجتماعية، ليصبح مجرد “إكسسوار” أو
“ترند” على الشبكات. وهذا ما يفسر كيف يتحول الوشم الأمازيغي أو الحناء الهندية إلى
عنصر جمالي محض، دون أي ربط بالقضايا النسوية أو التاريخ الكولونيالي الذي شكّلها.
لكن هل يعني هذا أن
كل تفاعل مع ثقافة الآخر هو استيلاء؟ بالطبع لا. التقدير الثقافي الحقيقي يتطلب جهداً
معرفياً ووجدانياً. يتطلب أن نقرأ عن تلك الثقافة، أن نحاور ممثليها، أن نعترف بخصوصيتها،
وأن لا نضعها تحت عدسة التنميط. فالتقدير لا يُقاس بعدد المتابعين أو الإعجابات، بل
بعمق العلاقة مع الأصل.
إن إنستغرام، بواجهته
البصرية المبسطة، يغري بالتجاوز. فالثقافة فيه تصبح “محتوى”، والاختلاف يتحول إلى
“ديكور”، والسياق يُطوى لصالح “الكادر الجذاب”. ولعل أخطر ما في الأمر أن خوارزميات
المنصة تشجع هذا النمط من التناول، حيث تمنح الأولوية للصور الجميلة لا للقصص العادلة،
ولمن يستطيع تقليد الرقصة لا لمن عاشها داخل طقوسها المقدسة.
وقد بدأت بعض الأصوات
في المجتمعات المهمّشة، خصوصاً من السكان الأصليين والأفارقة والعرب، تردّ الصاع صاعين،
من خلال حملات وهاشتاغات مثل #MyCultureIsNotYourCostume و #DecolonizeTheFeed، التي تسعى لإعادة الاعتبار
للهوية الثقافية بوصفها معرفة وتجربة لا موضة عابرة.
كما ظهرت حركات رقمية
مضادة تحاول الاستفادة من نفس الأدوات – الصور والفيديوهات والقصص – لعرض الثقافة بطريقة
تحفظ كرامتها، وتعزز حضور أهلها كفاعلين لا مجرد عناصر تجميل. ومن هنا تنبع ضرورة مراجعة
علاقة الأفراد، خصوصاً المؤثرين الرقميين، بالثقافات التي يعرضونها أو يرتدونها أو
يتحدثون عنها، ليس فقط من منظور جمالي، بل من زاوية الوعي التاريخي والاحترام الرمزي.
إننا نعيش زمناً تتلاشى
فيه الحدود بين ما هو محلي وما هو عالمي، بين الأصيل والمصنوع، وبين ما نملكه حقاً
وما نتشارك فيه رمزياً. غير أن هذا الانفتاح لا يجب أن يعني إباحة المعاني أو تجاهل
السياقات. ففي ظل توازنات عالمية مختلّة، ما زالت فيها ثقافات بعينها تُصادر وتُس commodified وتُعرض للبيع بأسماء جديدة، فإن الحديث عن
الاستيلاء لم يعد رفاهية أكاديمية، بل ضرورة أخلاقية.
في النهاية، لعل الأجدر
بنا أن نسأل أنفسنا، قبل أن نُحمّل صورة جديدة على إنستغرام: هل نحن نشارك في سرد حكاية؟
أم نُعيد إنتاج تاريخ من الإنكار؟ وهل نحن نُشيد بالاختلاف؟ أم نُقنّعه لنُناسب ذائقة
خوارزمية؟
الجواب، كما دوماً،
ليس في الصورة… بل في العين التي تلتقطها، وفي الضمير الذي يحمّلها معنى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق