أكتب هذه السطور وأنا أراقب كيف تحوّلت الكتابة الأدبية، التي كانت دومًا فعلًا فرديًّا ينساب من عزلة الكاتب، إلى حقل تفاعلي يشبه في تعقيده خريطة السحابة الرقمية. لم أعد أستطيع أن أفكّر في النص الأدبي ككائن يولد في غرفة مغلقة، على ورق أصفر، ثم يُرسل إلى الناشر لينفرد بتوقيع المؤلف. ما يحدث اليوم هو زلزال في مفهوم "المؤلف"، أعاد ترتيب العلاقة بين الذات المبدعة والنص والمجتمع.
لقد باتت المساحات
الرقمية منصّات لصناعة جماعية للنصوص، حيث تذوب حدود السلطة الفردية للمؤلف وتنبثق
سلطة جماعية، متوزعة، غير مركزية. ومنذ أن قرأت كتاب رولان بارت "موت المؤلف"،
شعرت أن نبوءته لم تكتمل إلا في هذا العصر الذي تُكتب فيه القصص والشعر والروايات بتوقيع
مجهول أو بتعاون بين عدد من المبدعين لا يجمعهم سوى خيط الإنترنت.
في الواقع، إن المنصات
مثل
«Wattpad» و»Reddit Writing Prompts» و»FanFiction.net»، بل وحتى أدوات الذكاء الاصطناعي كـ»ChatGPT»، قد أذابت فكرة "الكاتب الفرد"،
وأدخلتنا في مرحلة الكتابة المُوزَّعة. فالقصة لم تعد ثمرة قلم واحد، بل بناء مشترك،
قد يبدأه شخص في نيويورك ويعدّله آخر في كوالالمبور ويختمه قارئ في طنجة. هذه التجربة
الجديدة تشبه أوركسترا لا يقودها مايسترو واحد، بل تتحرك كل آلة فيها بانسجام مع حركة
غير مرئية.
أنا شخصيًّا شاركت
مرات عدّة في مشروعات أدبية جماعية عبر الإنترنت، بعضها بدأ بتعليق بسيط تحوّل لاحقًا
إلى قصة قصيرة متعددة الألسن والطبقات. وفي كل مرة كنت أشعر أن شيئًا من "ذاتي"
يذوب في النص، ويولد بدلًا منه وعي جماعي يُنتج الجمال، لا من خلال السيطرة، بل عبر
الانفتاح على الاحتمال. هذه التجربة جعلتني أراجع مفاهيمي القديمة حول "الأصالة"
و"الملكية الأدبية"، وأتقبّل فكرة أن الإبداع يمكن أن يكون تشاركيًّا دون
أن يفقد بريقه.
ما يميّز هذا النوع
من الأدب السحابي هو أنه لا يسير وفق تسلسل هرمي: لا رئيس تحرير، لا لجنة تحكيم، لا
بوابة دخول. النص يولد من تفاعلات مباشرة، من نقد وتعليقات وتعديلات، من تدفّق الأعضاء
الذين يكتبون ويعيدون الكتابة، وكأنهم ينحتون تمثالًا جماعيًّا لا يحمل اسم نحّات واحد.
لقد تناول الباحث «Henry
Jenkins» في كتابه «Convergence Culture» " «هنري جنكينز» في كتابه «ثقافة التقارب»
هذه الظاهرة، وشرح
كيف أصبحت الثقافة المعاصرة تُنتج من خلال جمهور نشِط لا يستهلك فقط، بل يشارك في الخلق
ذاته.
الأدب الرقمي الجماعي
أيضًا يفتح الباب أمام ثقافات وهويات لم تكن ممثّلة من قبل. ففي مشاريع الترجمة الجماعية
مثل «Global Voices،
أو مبادرات الكتابة المفتوحة على «Medium»
و»Substack»، نجد سرديات من الجنوب العالمي، من الأقليات،
من النساء، من المثليين، من اللاجئين، وقد أصبحت الآن جزءًا من الجسد الأدبي العالمي
دون الحاجة إلى وسطاء أو ممرات بيروقراطية.
لكن هذا التحول لا
يخلو من إشكالات. أليس ثمة خطر في أن يتحول النص إلى كيان فاقد للهوية، مجرد توليفة
من الأصوات المتنافرة؟ هل يمكن للتعاون الرقمي أن يحافظ على العمق الجمالي الذي ميّز
الأدب الفردي؟ ثم ماذا عن الحقوق القانونية والملكية الفكرية؟ من هو "المالك"
الحقيقي لنص تمت إعادة تحريره عشرات المرات من قبل كتاب مجهولين؟ هذه أسئلة لا تزال
مفتوحة، ولا أزعم أنني أملك إجابات حاسمة عنها، لكنني أؤمن أن الأدب لا يجب أن يُحبس
في قفص قانوني، بل يجب أن يُحتفى به ككائن حي يتنفس الحرية.
من اللافت أيضًا أن
بعض الكتّاب بدأوا يتعمدون كتابة نصوصهم بالتعاون مع الآخرين، بل ويطلبون من القراء
أن يتدخلوا في بناء النص. في مشروع "رواية تفاعلية" أنجزته إحدى الجامعات
البريطانية، تمت كتابة الرواية عبر مجموعة من المشاركين الذين كانوا يصوتون يوميًّا
على اتجاه الأحداث، وقد تبنّت الكاتبة «Kate
Pullinger» " كيت بولينجر " هذا النمط في أعمال مثل «Inanimate Alice»." أليس الجامدة"
الكتابة الجماعية هي
انعكاس عميق لروح العصر الرقمي، حيث لم يعد هناك مركز واحد للحقيقة أو السلطة، بل فسيفساء
من الرؤى والتجارب. وإذا كان مارشال ماكلوهان قد وصف العالم ذات يوم بأنه "قرية
كونية"، فإن أدب السحابة هو اللّغة التي تتحدث بها هذه القرية.
إنني لا أكتب هذا المقال
دفاعًا عن التخلي عن المؤلف الفرد، بل دعوة لتوسيع آفاقنا. فالكتابة الجماعية لا تلغي
الفرد، بل تعيد تأطيره ضمن نسيج أكثر اتساعًا وثراء. نحن نعيش لحظة انفتاح، حيث يصبح
النصّ مجالًا للحوار لا للخطابة، فضاءً للتفاوض لا للإملاء.
وبينما أُنهي هذه السطور،
أتخيل مستقبلًا تُكتب فيه الروايات الكبرى بتعاون بين البشر والذكاء الاصطناعي، بين
القارئ والكاتب، بين الشاعر والمحرر، بين الجنوب والشمال. وأفكر أن هذا المستقبل، وإن
كان مربكًا، إلا أنه يزخر بإمكانات جمالية ومعرفية لا حدود لها. فالكتابة، كما أراها
اليوم، لم تعد مرآة ذات واحدة، بل شبكة من العيون، وكل واحدة منها تضيء وجهًا جديدًا
من الحقيقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق