الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 19، 2025

رحلة في تقاطعات الفلسفة والذكاء الاصطناعي: إصدار جديد يثير الأسئلة الكُبرى


صدر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جديد يفتح آفاقًا غير مطروقة في التفكير الفلسفي المعاصر، بعنوان "الفلسفة في الذكاء الاصطناعي: من التنظير إلى الممارسة الإبيستيمولوجية"، وهو من تأليف الباحث الجزائري إبراهيم كراش، أستاذ الإبيستيمولوجيا وفلسفة العلوم بجامعة قاصدي مرباح – ورقلة. يقع العمل في 257 صفحة تتوزع بين مقدمة وملخص تنفيذي وأربعة فصول وخاتمة شاملة، إضافة إلى المراجع وفهرس عام.

ينطلق كراش في كتابه من فرضية مركزية مؤداها أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد منتج تكنولوجي معاصر، بل هو امتداد لمسار فلسفي عميق، تَشكّل على مدى قرون من التأمل في ماهية العقل، وحدود الإدراك، وإمكانات تمثيل الفكر. فالذكاء الاصطناعي – بحسب ما يطرحه المؤلف – يُفهم على أنه تجلٍ جديد لما أسماه بـ"اللوغوس"، أي منظومة عقلانية معرفية تُعيد بناء الإنسان عبر الآلة، وتعيد مساءلة المعنى من خلال الخوارزمية.

الكتاب لا يكتفي بتقديم عرض معرفي لتطور الذكاء الاصطناعي، بل يسعى إلى تفكيك بنيته الفلسفية من الداخل. يستعرض الكاتب مواقف فلسفية مؤثرة، مثل أطروحات جون سيرل حول "الغرفة الصينية" وانتقادات هوبرت دريفوس لنموذج الإدراك القائم على القواعد، كما يُعيد قراءة التيارات التمثّلية والعقلانية في الفلسفة الحديثة من زاوية علاقتها بالمشروع الحاسوبي المعاصر.

منذ العصور الوسطى، حلم الفلاسفة – بدءًا من ريموند لول وبليز باسكال – بميكنة الفكر، بينما شكّك آخرون كـديكارت في قدرة الآلة على تجاوز حدود الوعي واللغة. هذا الصراع الفكري يتجدّد اليوم في ظل التقدّم التقني، حيث تسعى علوم الحوسبة إلى محاكاة عمليات مثل الرؤية والاستدلال واللغة. لكن، كما يوضح المؤلف، ما زال الفهم الكامل لـ"الذكاء" غامضًا، سواء في تجليه البشري أو الاصطناعي.

الفصول الأربعة للكتاب تسير وفق نسق متصاعد:

  • الفصل الأول يُؤسّس لتعريف مزدوج للذكاء الاصطناعي، بوصفه تكنولوجيا قائمة على الخوارزميات، وفي الآن ذاته بوصفه حلمًا فلسفيًا بإزاحة الجهد البشري.

  • الفصل الثاني يعود إلى "أسطورة الذكاء الاصطناعي"، كما تشكلت في الموروث الثقافي القديم، قبل أن تُستبدل بمنطق رياضي عقلاني ينهل من الرياضيات والمنطق الرمزي.

  • الفصل الثالث يستعرض المقاربتين التمثّلية والوظيفية، اللتين تريان الفكر نظامًا يمكن تحليله وبرمجته إذا فُصل عن مادته البيولوجية.

  • أما الفصل الرابع، فيُخصص لنقد مشاريع الذكاء الاصطناعي، ويعرض حجج دريفوس وسيرل التي تُشكك في قدرة الآلة على تمثيل الفهم الحقيقي في غياب الجسد والسياق.

في خاتمة الكتاب، يُبرز المؤلف أن الذكاء الاصطناعي لا يُعد موضوعًا للفلسفة فحسب، بل هو تجسيد فلسفي بامتياز للأسئلة الكبرى حول العقل والإدراك والدلالة. ويقترح أن العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي ليست علاقة خارجية أو تأملية فقط، بل هي تماهٍ جوهري في صلب سؤال الوعي نفسه.

يُعد هذا العمل مساهمة عربية رائدة في ساحة يتصدرها غالبًا الخطاب الغربي، ويقدّم رؤية نقدية عميقة تستفيد من التراث الفلسفي، دون أن تغفل تعقيدات اللحظة التقنية المعاصرة. إن كتاب "الفلسفة في الذكاء الاصطناعي" هو دعوة جادّة إلى إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والآلة، بين الرمزي والواقعي، بين العقلاني والأسطوري.

يُذكر أن المؤلف سبق أن نشر أعمالًا لافتة مثل: "التفسير الاصطلاحي عند بوانكاريه" و*"مشكلات الأنثروبولوجيا الفلسفية"*، وهو يُعدّ من الأسماء البارزة في فلسفة العلوم والإبيستيمولوجيا في العالم العربي.


0 التعليقات: