الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يوليو 10، 2025

السرديات الشبكية: الأدب الرقمي بين التشاركية والتحول السردي: عبده حقي


لم أعد أكتب وحدي. هذه الحقيقة التي كانت في البداية مرعبة ومربكة، تحوّلت تدريجياً إلى مفتاح لفهم جديد للأدب في زمن المنصات والشبكات والقراءة الجماعية. إن كاتب الأمس كان يتحصّن في عزلته، يطارد المعنى داخل حيطان ذاته، ويُسلّم نصّه للقارئ بيدين مرتجفتين. أما اليوم، فقد أصبح النص نفسه حياً، يتفاعل ويتوالد ويتشعب، لا فقط بفضل تقنيات البرمجة الفائقة، بل بسبب هذا التمدد الخفي للعلاقات الاجتماعية التي تنسجها التكنولوجيا حول الكتابة.

الأدب الرقمي ليس مجرد انتقال للورق إلى الشاشة، بل هو إعادة هيكلة جذرية للعلاقة بين الكاتب والنص والقارئ. كما يؤكد الباحث «Scott Rettberg» "سكوت ريبيرغ" في كتابه “Electronic Literature”، "الأدب الإلكتروني" فإن ما يميز هذا الأدب ليس فقط الوسيط الرقمي، بل “الممارسات التفاعلية التي تجعله مساحة مشتركة للخلق والمعنى.” وبهذا المعنى، فإن الرواية التفاعلية أو القصيدة البرمجية لم تعد تُقرأ فقط، بل تُمارس وتُعاد كتابتها، سواء عبر خوارزميات مدمجة أو تفاعلات القراء عبر الروابط والتعليقات والإشارات.

لقد عايشتُ هذا التحول وأنا أخطّ أول نص قصصي تفاعلي شارك فيه عشرات القرّاء، لا كمتفرجين، بل كصانعي اختيارات ومسارات. شعرتُ حينها أنني جزء من ورشة سردية مفتوحة، تُبنى فيها الحكاية على طبقات، وتتوزع فيها السلطة بين الكاتب والجمهور والخوارزمية. لم يعد النص ملكاً لصاحبه فقط، بل صار فضاءً مشتركاً، يشبه إلى حد بعيد “القرية السردية” التي تخيّلها بيير ليفي وهو يصف دينامية المعرفة الجماعية في المجتمعات الرقمية.

السرد الشبكي يُخرج النص من وحدته الخطية المغلقة، ويمنحه بُعداً شبيهاً بالخريطة، حيث يمكن للقارئ أن يختار مساره، ويعيد ترتيب فصول الحكاية، ويضيف تأويله الخاص. وهذا التحول لم يعد فقط ممارسة إبداعية بل ظاهرة ثقافية تحتاج إلى تفكيك سوسيولوجي. فبقدر ما يتوسع النص، تتوسع معه دوائر التلقي، وتتغير أنماط التأثير. لم يعد الكاتب يبحث عن قارئ متأمل، بل عن متفاعل، متورط، بل وربما متمرد. إن هذا التفاعل ينسجم مع ما سماه مانويل كاستيلسبشبكات المعنى” التي تحكم آليات التواصل والإنتاج الرمزي في العصر الرقمي.

وبينما تنمو هذه التجارب، يطرح سؤال الهوية السردية نفسه بإلحاح: من يملك النص؟ ومن يمنحه شكله النهائي؟ هل هو الكاتب الأصلي؟ أم الخوارزمية التي تولّد البدائل؟ أم الجمهور الذي يُصوّت أو يُعلّق أو يُشارك؟ في مقالة لها بعنوان “From Author to Network,” "من الكاتب إلى الشبكة" تُشير الباحثة كاترين هالس إلى أن الأدب الشبكي يُعيد تشكيل “الفردية الأدبية” ويحوّلها إلى “نظام تعاوني من الإبداع اللامركزي”، وهو ما يُربك كثيراً من المفاهيم التقليدية حول الأصالة والملكية.

لقد أدركتُ، وأنا أخوض في هذه الشبكات السردية، أن التحدي لا يكمن فقط في التكيف مع أدوات جديدة، بل في إعادة تعريف دور الكاتب: هل أصبح محرّك سردي؟ مُصمم تفاعلات؟ أم مجرد مُحفز لبداية قصة يتكفّل الآخرون بتوسيعها؟ الأمر يشبه ما حدث في عالم الموسيقى بعد انتشار الريمكسات والإنتاج التشاركي، حيث لم يعد العمل النهائي نتيجة عبقرية فردية، بل تفاعلاً مع جمهور نشيط ومتحفز.

لكن هذه الدينامية لا تخلو من إشكاليات. فالتداخل المفرط بين الكتابة الجماعية والتقنيات الرقمية قد يُفضي إلى “تبهيت الصوت الفردي”، وإلى تحويل الأدب إلى منتج استهلاكي أكثر منه مشروعاً جماليًا متكاملاً. وهنا أستحضر نقد المفكر «Byung-Chul Han» "بيونغ شو هان" للثقافة الرقمية في كتابه “In the Swarm”" في السرب " حيث يرى أن التفاعل السطحي قد يُضعف العمق التأملي ويُفكك البُنى الجمالية للنص.

ومع ذلك، أجد أن القوة الرمزية لهذا النوع من الأدب تكمن في قدرته على التقاطع مع الحساسيات الجديدة للمجتمع. فالنص الشبكي يُجسّد، بل يُحاكي، طريقة تفكيرنا المعاصرة: مجزأة، متفرعة، لا خطية، ومتعددة الأصوات. إنه يشبه ذاك الحلم المتكرر الذي تراه في أكثر من صورة، وكل مرة بنهاية مختلفة، كأن السرد لم يعد مرآة الواقع فقط، بل انعكاسًا مرنًا لأوهامنا الجمعية.

ختامًا، يمكن القول إن السرديات الشبكية ليست فقط نتيجة التكنولوجيا، بل هي أيضاً تعبير عن حاجة إنسانية قديمة: أن نروي، لكن هذه المرة لا بمفردنا، بل معاً، داخل شبكة لا نهائية من العلاقات والمعاني. ومع كل تجربة جديدة، يتضح لي أن الأدب الرقمي ليس وعداً تكنولوجياً فحسب، بل فرصة لإعادة تخيّل الحكاية بوصفها فعلًا اجتماعياً ومشتركاً في جوهره.

0 التعليقات: