شكّل إعلان محمد الخامس ملكاً للمملكة المغربية في 14 غشت 1957 محطة مركزية في مسار الانتقال من منطق المقاومة إلى منطق بناء الدولة الوطنية، إذ جاء القرار في توقيت حساس عقب سنتين تقريباً من الحصول على الاستقلال، في ظل تحديات داخلية مرتبطة بإعادة ترتيب المشهد السياسي، وتحديات خارجية تتعلق بإثبات سيادة المغرب في محيط دولي مضطرب.
من الناحية الدستورية، وضع الإعلان حداً لوضعية “السلطان” التي ارتبطت بنظام الحماية منذ 1912، وانتقل المغرب نحو بناء ملكية وطنية ذات سيادة تمارس جميع السلطات السيادية للدولة، بعدما كانت هذه السلطات تمارس فعلياً من طرف سلطات الحماية الفرنسية والإسبانية. وقد تناول العديد من الباحثين هذا التحول باعتباره الخطوة الأولى نحو “إعادة الشرعية التاريخية” للمؤسسة الملكية باعتبارها رمز وحدة الأمة المغربية وامتداداً للدولة العلوية[1].
على المستوى السياسي،
جاء الإعلان متلازماً مع إعادة تشكيل العلاقة بين القصر والقوى الوطنية، وفي مقدمتها
حزب الاستقلال، الذي كان يشكّل العمود الفقري للحركة الوطنية. وفي هذا السياق، حاول
محمد الخامس الحفاظ على توازن دقيق بين متطلبات الشرعية الثورية التي كانت تطرحها المقاومة
المسلحة، وبين الحاجة إلى بسط سلطة الدولة على مجموع التراب الوطني. بعض الوثائق الدبلوماسية
الفرنسية تشير إلى أن باريس كانت تراهن على صراعات داخلية بين القصر والحركة الوطنية،
غير أن إعلان الملك شكّل رسالة واضحة بأن المؤسسة الملكية قادرة على قيادة المرحلة
دون الدخول في منطق التنازع[2].
اقتصادياً، واجه المغرب
بعد الاستقلال تحدياً حاداً يتمثل في الانتقال من اقتصاد موجّه نحو المصالح الاستعمارية
إلى اقتصاد وطني قادر على الاستجابة لحاجيات المجتمع. وقد بدأ محمد الخامس فعلياً في
هذه المرحلة مفاوضات صعبة مع فرنسا بشأن استرجاع العملة الوطنية وبنك المغرب، إضافة
إلى مراجعة اتفاقيات التعاون العسكري والمالي الموقعة عام 1956. وتشير دراسة الباحث
محمد ضريف إلى أنّ إعلان الملك ترافق مع إرسال أوّل بعثة اقتصادية مغربية إلى الولايات
المتحدة، في إطار البحث عن تحالفات بديلة عن الهيمنة الفرنسية[3].
من الناحية الاجتماعية،
ساهم الإعلان في تكريس نوع من التلاحم الرمزي بين الشعب والعرش، خاصة أن شخصية محمد
الخامس كانت آنذاك تحظى بكاريزما قوية بسبب نفيه سنة 1953 وعودته المظفّرة سنة
1955. وقد ربطت أحزاب اليسار ـ مثل حزب الشورى والاستقلال ـ بين هذا الإعلان وبين إمكانية
دمقرطة الحياة السياسية عبر إعداد دستور يحدّد صلاحيات الملك والحكومة. لكن أغلبية
أعضاء المجلس الوطني لحزب الاستقلال أجمعت في اجتماعات سرية خلال سبتمبر 1957 على أن
المرحلة لا تحتمل صراعاً مؤسساتياً، وأن “المعركة الحقيقية” هي بناء جيش وطني وتعليم
عمومي حديث[4].
في سياق إقليمي، تزامن
الإعلان مع بداية الحرب الجزائرية (انطلقت عام 1954) وانعقاد المؤتمر الأول لحركة عدم
الانحياز في باندونغ (1955)، ما فرض على المغرب إعادة تموقعه ضمن معسكر الدول المستقلة
حديثاً. وقد حرص محمد الخامس على إرسال وفد رسمي إلى مؤتمر القاهرة (1957) لدعم الثورة
الجزائرية، في إشارة واضحة إلى أن إعلان الملك لا يعني انغلاقاً على الذات، بل انخراطاً
في قضايا التحرر. وتؤكد مذكرات عبد الخالق الطريس أن القصر كان آنذاك يخشى من “الانعزال
الدبلوماسي” إذا لم يعط إشارات ملموسة تجاه حركات التحرر في المنطقة[5].
أما داخلياً فقد ظل
هاجس “ترتيب البيت الوطني” حاضراً، خاصة بعد تصاعد بعض الاحتجاجات في الشمال (الريف)
ومدينة الدار البيضاء بسبب ارتفاع الأسعار وتباطؤ عمليات إدماج عناصر جيش التحرير،
ما دفع محمد الخامس إلى توجيه خطاب حاسم يوم 24 شتنبر 1957 أكد فيه أن “الملكية الوطنية
ليست امتيازاً بل تكليفاً أمام الشعب”. وهو ما قرأه العديد من الباحثين باعتباره بداية
هندسة جديدة للعلاقة بين الحكم والتمثيلية السياسية[6].
وعلى المستوى العسكري،
بدأ العمل الفعلي لبناء القوات المسلحة الملكية في السنة نفسها، بدعم محدود من الولايات
المتحدة وإسبانيا، بعد اتفاق سري تم توقيعه في طنجة. وتشير تقارير أرشيف وزارة الدفاع
الفرنسية إلى أن الإعلان عن الملكية دفع بالعديد من الضباط المغاربة إلى العودة من
الخدمة في الجيش الفرنسي للالتحاق بالجيش الوطني[7].
إن إعلان محمد الخامس
ملكاً لم يكن مجرد تعديل في التسمية، بل كان تتويجاً لمسار المقاومة، ونقطة الانطلاق
نحو تأسيس دولة ذات سيادة كاملة، وإعادة بناء المؤسسات على قاعدة الشرعية الوطنية.
وقد أحسن القصر استثمار هذه اللحظة الرمزية لإعادة رسم التحالفات السياسية، وتثبيت
الدور المركزي للمؤسسة الملكية بوصفها ضامنة لوحدة الدولة واستمرارها، في مرحلة كانت
فيها معظم التجارب السياسية العربية الحديثة تنزلق نحو الانقلابات والصراعات الداخلية.
المراجع والمصادر
[1]
الشريف السحيمي، الملكية
المغربية والتحول الدستوري بعد الاستقلال، الدار البيضاء، 2014
[2]
أرشيف وزارة الخارجية
الفرنسية، وثيقة 102/55 بتاريخ 8/9/1957
[3]
محمد ضريف، التحولات
الاقتصادية في المغرب بعد الاستقلال، منشورات كلية الحقوق بالرباط، 2012
[4]
عبد الله العروي، مجمل
تاريخ المغرب السياسي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2008
[5]
عبد الخالق الطريس،
مذكرات ومراسلات، الرباط، 1999
[6]
محمد المنوني، خطابات
محمد الخامس والنظام السياسي المغربي، الرباط، 1988
[7] وزارة الدفاع الفرنسية،
تقرير حول إعادة تنظيم القوات العسكرية في شمال أفريقيا، 1958
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق