الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 23، 2025

الصحافة والأرشيف: استراتيجيات الحفظ الرقمي: عبده حقي


أكتب هذه الكلمات وأنا أستحضر قلقاً مزمناً يسكنني كلما تأملت مصير الذاكرة الصحفية في زمن التحول الرقمي. إن الصحافة، في جوهرها، فعل أرشفة للزمن، محاولة لإبقاء اللحظة حاضرة ضد زحف النسيان. غير أن هذه المهمة التي كانت في الماضي ترتبط بالورق، بالمكتبات الوطنية، وبالأرشيفات الصحفية المكدسة في الأقبية، انتقلت اليوم إلى فضاء أكثر هشاشة، فضاء رقمي يهدد بالاندثار بمجرد انهيار خادم أو توقف منصة.

لقد كتبت الباحثة «جوليا كاسي» في دراستها حول "الأرشيف الرقمي والإعلام" أن "الرقمنة لا تعني بالضرورة الخلود، بل قد تكون الطريق الأسرع إلى التلاشي

" (Cassie, «Digital Memory Studies», 2018).  إن هذه العبارة تصيبني بالذهول، إذ تكشف التناقض العميق الذي نعيشه: ننتج كماً هائلاً من الأخبار والمقالات والبيانات يومياً، ومع ذلك نخاطر بخسارة هذا الإرث لأن استراتيجيات الحفظ لا تواكب سرعة التدفق. إننا كمن يسكب الماء في غربال، ننتشي بوفرة النصوص، ثم نصحو على فراغ أرشيفي قاتل.

في هذا السياق، يصبح السؤال الملح: كيف يمكن للصحافة أن تؤمّن لنفسها ذاكرة طويلة المدى في عالم يحكمه التبديد؟ إن التجارب العالمية تعطي مؤشرات متباينة. فمشروع ««Europeana»«  الأوروبي، على سبيل المثال، يسعى إلى رقمنة الأرشيفات الصحفية وربطها بواجهات بحث مفتوحة للجمهور، بينما تطرح مبادرة ««Internet Archive»« تحدياً آخر من حيث استدامة التمويل وضمان الشمولية. لكن ما يثيرني أكثر هو تلك المبادرات المحلية في بعض الدول، مثل مشروع "الأرشيف الصحفي المغربي" الذي انطلق في المكتبة الوطنية، حيث تتشابك الحاجة الوطنية إلى حفظ الهوية الإعلامية مع التحديات التقنية والمالية.

وأنا باعتباري كاتبا ومتابعا للشأن الإعلامي، أرى أن مسألة الأرشفة الرقمية لا يمكن فصلها عن البعد السياسي والثقافي. فالصحافة ليست مجرد مهنة يومية، بل هي جزء من الذاكرة الجماعية. إن غياب أرشفة محكمة يجعل من المجتمعات رهينة الذاكرة الانتقائية التي تفرضها الشركات الكبرى، أو رهينة التلاشي الذي تفرضه هشاشة التكنولوجيا. هنا أتذكر ما قاله «جاك دريدا» في كتابه «"حمى الأرشيف

" (Archive Fever, 1995) "من يملك الأرشيف يملك السلطة على الذاكرة". فهل يمكن أن نتصور استقلالاً صحفياً حقيقياً من دون امتلاك أدوات مستقلة للحفظ الرقمي؟

الحفظ الرقمي ليس مسألة تقنية فحسب، بل هو أيضاً رهان وجودي على معنى الصحافة ذاتها. إن بناء استراتيجيات متينة يتطلب الجمع بين الخبرة التقنية والرؤية النقدية. لا يكفي أن نحفظ النصوص على خوادم سحابية، بل يجب أن نفكر في التشفير، في صيغ الملفات المفتوحة، في استراتيجيات الهجرة الرقمية  (digital migration)، وفي ضمان إتاحة الوصول عبر الأجيال. إنني أرى أن الصحافة إن لم تنخرط بوعي في معركة الأرشيف، فإنها ستجد نفسها في المستقبل مجرد ذكرى يتيمة، كقصاصات صفراء في متاحف النسيان.

ولعل المثال الأشد إيلاماً ما حدث مع بعض الصحف الورقية التي أغلقت فجأة، تاركة وراءها أرشيفاً رقمياً قد ضاع مع توقف مواقعها. إن تلك اللحظة تذكرني بما كتبه «أومبرتو إيكو» في «"اسم الوردة"«، حين تحدث عن المكتبات التي تحترق فتترك فراغاً لا يعوض. هكذا أيضاً تحترق المواقع الرقمية بصمت، تاركة ثقوباً سوداء في ذاكرة الأمم.

إنني أخلص إلى أن الصحافة اليوم مدعوة إلى أن تعيد تعريف نفسها كحارسة للذاكرة بقدر ما هي ناقلة للخبر. فالأرشيف الرقمي ليس رفاهية أكاديمية ولا مشروعا جانبياً، بل هو قلب المشروع الصحفي ذاته. من دونه، نصبح بلا تاريخ، ومن دون تاريخ نصبح بلا هوية. وهنا يكمن التحدي: أن نبني ذاكرة لا تأكلها النيران، لا الورقية منها ولا الرقمية، بل ذاكرة تتجدد كما تتجدد اللغة، لتبقى شاهدة على زمننا للأجيال القادمة.

هل تود أن أعيد صياغة هذا المقال لاحقاً بنبرة أكثر صحفية مباشرة، مثل افتتاحيات الجرائد، بدل النبرة الأكاديمية التي ركزت عليها هنا؟

0 التعليقات: