الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 03، 2025

هل تغيّر الصحافة الرقمية ملامح تغطية الصراعات الدولية : عبده حقي


بين تحديثات الأخبار، والتنبيهات العاجلة، والبث المباشر من خطوط النار، أجد نفسي أتأمل كيف تحوّلت الصحافة، من مراسل يبعث تقاريره باللاسلكي من فيتنام، إلى خوارزمية تصنّف الصور القادمة من غزة أو خاركيف قبل أن يقرأها المتلقي. لم يعد الصحافي وحده من يروي الخبر؛ بل باتت الخوارزميات، وشبكات التواصل، والمنصات التفاعلية، شركاء دائمين في كتابة الرواية.

في العقود الماضية، كانت تغطية الحروب تقتصر على مراسلين ميدانيين، على غرار روبرت فيسك في بيروت أو كريستيان أمانبور في البوسنة. أما اليوم، فالمشهد أكثر تعقيدًا وتعدّدًا. الصحافة الرقمية، بقدرتها على الجمع بين السرعة والتفاعل والوسائط المتعددة، باتت تحتل موقعًا مركزيًا في صياغة الرأي العام العالمي حول النزاعات المسلحة. لقد صار الإعلام الرقمي صانعًا للتأثير، ومحدّدًا لمجال الرؤية، وأحيانًا موجّهًا لأخلاقيات التلقي ذاتها.

من أبرز ما يميز الصحافة الرقمية في تغطية الصراعات هو الكثافة الزمنية. الحدث يُنقل لحظة بلحظة، كما لو كنا نعيش داخل غرفة القيادة نفسها. تغطية الحرب في أوكرانيا، على سبيل المثال، كشفت عن هذا التحول الجذري. لم تعد تقارير "نيويورك تايمز" أو "بي بي سي" وحدها هي المرجع، بل صار للصحفيين المستقلين ومنصات مثل «Bellingcat» و»The Kyiv Independent»  دورمؤثر لا يقل شأناً، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي والتصوير الجغرافي المفتوح المصدر لتوثيق الجرائم والانتهاكات.

لكن هذه السرعة لا تخلو من ثمن. فكما يُقال: "في زمن العاجل، تُدفن الحقيقة تحت ركام العنوان". كثرة المصادر، وتشظي السرديات، وغياب معايير التحرير الموحدة في العالم الرقمي، قد تخلق حالة من "التضليل المشروع"، حيث تتنافس الروايات لا على أساس الحقيقة، بل على أساس التفاعل. وقد أشار المفكر الكوري الألماني بيونغ-تشول هان في كتابه «"مجتمع الشفافية"« إلى خطورة التحول نحو كمٍّ من المعلومات المفرطة على حساب العمق، قائلاً: "الوضوح الظاهري يُخفي في كثير من الأحيان فراغًا في المعنى".

في المقابل، وفّرت الصحافة الرقمية أدوات غير مسبوقة لتوثيق الجرائم، خاصة في مناطق النزاع التي يصعب الوصول إليها. الحرب في سوريا مثلًا، كانت مجالًا لتجربة غير مسبوقة في استخدام الفيديوهات القصيرة والصور التفاعلية كشهادات توثيقية، وهو ما وظفته منظمات مثل «هيومن رايتس ووتش»و»منظمة العفو الدولية » ضمن تقاريرها المعتمدة على محتوى مستخدِمي الإنترنت.

 

وما زلت أذكر كيف أن صورة الطفل السوري "إيلان" على شاطئ تركي، والتي انتشرت على المنصات الرقمية، أحدثت في ساعات قليلة ما عجزت عنه عشرات المؤتمرات السياسية. قوة الصورة هنا لم تكن فقط في مأساويتها، بل في انتشارها العابر للحدود دون حاجة إلى وساطة. وهذا يعيدنا إلى مفهوم "الحدود المتلاشية" في الإعلام الجديد الذي تحدث عنه الفيلسوف بول فيريليو، حيث يصبح التغطية حدثًا كونيًا أكثر من كونها فعلًا محليًا.

الصحافة الرقمية أيضًا فتحت المجال أمام سرديات بديلة، خصوصًا لسكان مناطق النزاع أنفسهم. في السابق، كانت الأصوات المحلية غالبًا ما تُهمّش لصالح صوت المراسل الغربي. أما اليوم، فبإمكان شاب في الخرطوم أو فتاة في غزة أن تبث شهادتها مباشرة، دون فلترة أو تقطيع. غير أن هذا التمكين لا يعني غياب الرقابة أو التحيز. فالمنصات الرقمية، كما تتيح الصوت، تملك سلطة خوارزمية تحدد من يُسمَع ومن يُقصى.

أكثر ما يقلقني في هذا السياق هو النزعة المتزايدة نحو "الصحافة الانفعالية"، حيث يُقاس النجاح بعدد المشاركات، لا بجودة التحقيق أو دقته. لقد اختلط الإنساني بالبروباغندا، والمعلومات بالحشود العاطفية، وأصبح الجمهور جزءًا من مسرح الحرب، لا مجرد متفرج. ولعل أخطر ما تخلقه هذه الظاهرة هو تطبيع العنف، حيث تصير صور الموت والتشريد جزءًا من روتيننا اليومي دون أن تثير لدينا سوى تأفف عابر.

ومع كل ذلك، لا يسعني سوى الإقرار بأن الإعلام الرقمي منحني أنا وغيري قدرة استثنائية على الوصول والتحليل والمساءلة. فهو رغم مخاطره، يفتح آفاقًا غير مسبوقة أمام التوثيق، والرواية، والمقاومة المعرفية. في عالم تتكاثر فيه الأزمات، لا نملك رفاهية رفض التكنولوجيا، لكننا نملك – بل يجب أن نمتلك – مسؤولية تسخيرها بوعي نقدي وأخلاقي.

الصحافة الرقمية، في نهاية المطاف، ليست مجرد أداة لتغطية الحروب، بل هي نفسها جزء من الحرب: حرب المعاني، والمفاهيم، والحقيقة.

0 التعليقات: