يشكّل كتاب كاثرين إن. هايلز Electronic Literature: New Horizons for the Literary أحد المداخل المرجعية القليلة التي صاغت، باقتدار أكاديمي ووضوح تربوي، خريطةً شاملة لحقل «الأدب الإلكتروني» في لحظة انتقالية من الثقافة الطباعية إلى الثقافة الرقمية. صدر الكتاب عن منشورات جامعة نوتردام سنة 2008، وجاء بوصفه مسحًا منهجيًا للأنواع والمقاربات النقدية وأسئلة التدريس والأرشفة، مع حجّة مركزية مفادها أن «الأدبي» نفسه يُعاد تعريفه حين يُنتَج ويُقرأ على شاشات وأجهزة وبرمجيات لا على الورق فقط.
تبدأ هايلز من سؤال
بسيط ظاهريًا: ما الذي يجعل نصًا ما «أدبًا إلكترونيًا»؟ فتقترح تعريفًا يعتمد على
«الولادة الرقمية» واستثمار إمكانات الحوسبة والشبكة (التشعّب، الدينامية، التفاعلية،
التوليد الآلي، الصوت والصورة واللمس)، أي أن العمل لا يُنقل إلى الشاشة نقلاً، بل
يُصمَّم للأوساط الرقمية بوصفها بيئته الطبيعية. بهذا المعنى، لا تتحوّل الشاشة إلى
«صفحة» بديلة فحسب، بل إلى منصّة تتحدّد فيها دلالات النص عبر تلاقي البرنامج والمنصّة
والواجهة وخبرة الاستخدام—وهي مفاتيح مفهومية تؤكّد أن «المعنى» ليس في السطور وحدها،
بل في علاقات القراءة المؤدّاة بين القارئ والآلة.
تقدّم المؤلفة، ضمن
هذا الإطار، طيفًا نوعيًا يساعد على رؤية المشهد: السرد التشعّبي، القصيدة الحركية/البصرية،
الأدب التوليدي، «الكود-وورك» الذي يجعل الشفرة نفسها طبقة دلالية، الكتابة الشبكية،
الدراما التفاعلية، والدردشات الأدبية/البوتات… إلخ. ليست هذه قائمة تصنيفية مغلقة،
بل خرائط قراءة تكشف كيف تغيّر الوسيطُ طرائق السرد وبناء الشخصيات وإدارة الزمن، وكيف
يستبدل النصّ «الخطّية» بفضاءات من الروابط والإجراءات والحدثيات الزمنية الحية. هنا
تبرع هايلز في وصل الفلسفي بالنقدي: فالوسيط ليس «وعاءً» محايدًا، بل بنية إنتاج للمعنى.
إحدى مساهمات الكتاب
الأبرز هي الدفاع الحازم عن إدماج الأدب الإلكتروني في الصفّ الجامعي وتحوّله إلى جزء
من «الكانون» الأدبي، لا ملحقًا هامشيًا. تقول هايلز عمليًا: إن لم تتعلّم أقسام الأدب
قراءة النصوص المولودة رقميًا وتاريخها وتقنياتها، فسيفوتها مستقبل «الأدبي». ولذلك
تُلحّ على بناء مؤسسات وأرشيفات وكُتُبٍ معيارية؛ وهنا يبرز ارتباط الكتاب بخطّ عمل
منظمة الأدب الإلكتروني (ELO) وجهودها في التعريف، والتصنيف، وجمع النُّصوص في «المجموعات» المعيارية
التي تساعد الباحثين والطلاب على الوصول إلى الأعمال وتجربتها.
منهجيًا، لا تكتفي
هايلز بالتأصيل النظري، بل تمارس قراءات قريبة لأعمال مفصلية، مبيّنةً كيف تعمل النصوص
على مستوى الواجهة والزمن والتفاعل والشفرة والطبقات السيميائية المتعدّدة. وتستدعي
– ضمنيًا وصريحًا – تراث النقد الوسائطي الذي اشتغلت عليه في كتب سابقة، لتبيّن أن
«تحليل خصوصية الوسيط» شرطٌ لفهم خطاب الأدب الإلكتروني. كما تطرح ثنائية «البرنامج
والمنصّة» لتفسير تبعيات العمل للتقنيات والأطر التشغيلية (من لغات البرمجة إلى مشغّلات
الفلاش القديمة)، وتداعيات ذلك على القراءة والحفظ وإعادة الإحياء حين تشيخ البرامج
وتتقادم الأجهزة. هذه النقطة تجعل الكتاب مرجعًا مبكرًا في دراسات الاستدامة الرقمية
للأعمال الإبداعية.
على مستوى القيمة التاريخية،
كثيرًا ما وُصف الكتاب بأنه أول مسحٍ منهجي شامل للحقل، بما يجعله نقطة انطلاق للباحثين
والمدرسين معًا؛ وهو توصيف تؤكّده المراجعات والبيانات التعريفية للناشر، التي تشدّد
على طبيعته البانورامية وهدفه «نقل» الأدب الإلكتروني إلى الفصل الدراسي وبناء مفردات
قرائية جديدة. هذه مركزيةٌ تحقّقت لأن الكتاب لا يتعامل مع «الأعمال» كأدلة على أطروحة
مسبقة فحسب، بل يشتقّ من المواد نفسها قضاياه النظرية.
ومع كل هذه القوة،
لا يخلو الكتاب من فجواتٍ يمكن – اليوم – الإشارة إليها نقديًا. فتركيزه يظلُّ غالبًا
أنغلوساكسونيًا من حيث الأمثلة ومسارات التلقي، ويعكس زمن كتابته في أواخر عصر «فلاش»
وبدايات الويب التشاركي قبل صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي ومنصّات الهواتف الذكية
بسنوات. كما أن حضور الأعمال العربية أو الإفريقية يكاد يكون معدومًا، ما يترك واجبًا
على الباحثين في منطقتنا لتوسيع الخريطة وإعادة كتابة التاريخ من منظورٍ متعدّد اللغات
والثقافات. لكن الإنصاف يقتضي القول إن هايلز لا تدّعي الاكتمال؛ إنها ترسم أفقًا بحثيًا
وتفتح أبوابًا أكثر مما تُغلق، وتمنح الطلاب والباحثين مفاتيح للعبور.
أهمية الكتاب لنا،
كقرّاء وباحثين وكُتّاب في العالم العربي، تتجاوز البعد التعريفي. فهو يزوّدنا بأدواتٍ
للعمل: كيف نقرأ النصّ الذي يتصرّف كبرنامج؟ كيف ندرّس قصيدة لا «تُقرأ» إلا وهي تتحرّك؟
كيف نؤرشف عملاً يتوقّف عن الاشتغال حين يتوقّف مُشغِّلٌ أو تُلغى بيئة برمجية؟ وكيف
نبني كانونًا عربيًا للأدب الإلكتروني يُجاور الكانون الطباعي بدل أن ينافسه؟ إن أطروحة
هايلز الكبرى أن «الأدبي» ليس ملكًا لمادّةٍ دون أخرى؛ إنّه نظام علاقات بين تقنيات
التعبير ومخيّلة القارئ وإجراءات الاستخدام. لذلك تبدو الترجمة والتدريس والإنتاج النقدي
المحلي خطواتٍ لازمة لإنشاء بيئةٍ حاضنة تُكمل ما بدأته المؤلفة على الصعيد العالمي.
خلاصة القول: يضع كتاب
«الأدب الإلكتروني: آفاق جديدة للأدبي» معيارًا لما ينبغي أن تكون عليه الدراسات الأدبية
في زمن الشبكات والخوارزميات. قوته في الجمع بين وضوح المفاهيم وصرامة التحليل وحسٍّ
تربوي يتوجّه إلى الصفّ بقدر ما يتوجّه إلى المختبر. وحين نقرأه اليوم، بعد تحوّلات
عميقة في واجهات القراءة والإنتاج وظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، ندرك أن سؤال هايلز
الأوّل ما زال حيًا: ليس كيف نحمي «الأدب» من الآلة، بل كيف نجعل من الآلة أفقًا جديدًا
للأدبي—تقنيًا وجماليًا وتعليميًا—من دون التفريط بتاريخ الكتابة ولا بكرامة القراءة.
هنا بالذات تكمُن القيمة الدائمة لهذا العمل المرجعي.
المراجع والمصادر
Katherine N.
Hayles, Electronic Literature: New Horizons for the Literary, University of
Notre Dame Press, 2008.
Janet H.
Murray, Hamlet on the Holodeck: The Future of Narrative in Cyberspace, MIT
Press, 1997.
Espen J.
Aarseth, Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature, Johns Hopkins
University Press, 1997.
Matthew
Kirschenbaum, Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination, MIT Press,
2008.
The
Electronic Literature Organization (ELO) official site: https://eliterature.org
0 التعليقات:
إرسال تعليق