الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 30، 2025

قراءة في كتاب «آليات: الوسائط الجديدة والخيال الجنائي» لماثيو كيرشنباوم: ترجمة عبده حقي


يُعَدّ كتاب ماثيو كيرشنباوم Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination (2008)  عملاً تأسيسيًا في دراسات الأدب الإلكتروني والإنسانيات الرقمية، لأنه قلب الانشغال التقليدي بما يظهر على الشاشة ليضع التخزين والوسائط المادية في مركز التحليل. الفكرة الجوهرية هنا هي أنّ النصوص الرقمية ليست مجرد بيانات عابرة، بل كيانات مادية تُنقش وتُحوَّل عبر وسائط تترك آثارًا قابلة للتعقّب، كما لو كانت أدلة جنائية في مسرح جريمة.

يبني كيرشنباوم إطارًا نظريًا مزدوجًا: «المادية الشكليّة» التي تحيل إلى البُنى البرمجية والبيئات الحسابية التي تُظهر النصوص الرقمية، و«المادية الجنائية» التي تُشير إلى تجسد النصوص في وسائط التخزين المادية مثل الأقراص الصلبة والأقراص المرنة. يذكّرنا هذا التمييز بأن كل عرضٍ على الشاشة هو حصيلة عمليات مادية معقّدة، وأن كل عملية تشغيل تترك أثرًا جديدًا يمكن قراءته بأدوات التحليل الجنائي الرقمي.

يولي الكتاب اهتمامًا بالغًا بالتخزين. ليس من باب الصدفة أن غلافه يُظهر قرصًا صلبًا منتشلًا من أنقاض برجي التجارة العالمية، في إشارة إلى قدرة البيانات الرقمية على النجاة من الكوارث وإمكانية استردادها. بذلك ينتقد كيرشنباوم فكرة «التلاشي الرقمي» الشائعة، مبينًا أن المحو ليس كاملًا أبدًا، وأن آثار الكتابة تبقى كامنة في الوسائط المادية، على عكس ما يوحي به وهم الشاشة الزائلة.

ينتقل الكتاب من التنظير إلى التطبيق عبر ثلاث دراسات حالة أصبحت مرجعية.

اللعبة التفاعلية Mystery House (1980): يبيّن المؤلف من خلال تحليل صورة القرص كيف تكشف القطاعات الفارغة عن تاريخ مادي سابق لوسيط أعيد استخدامه. هذا يوسع معنى «التناص» من النصوص إلى الوسائط ذاتها.

الهايبرتكست afternoon, a story لمايكل جويس: يوضح أن النص لا يمكن فهمه إلا من خلال بيئته التقنية (برنامج Storyspace، إصداراته المختلفة، منصة ماكنتوش). هكذا تتحول «النسخ» إلى «متغيرات» يتدخل فيها العتاد والبرمجيات.

قصيدة ويليام غيبسون Agrippa (A Book of the Dead): يعيد الكتاب كتابة تاريخها بوصفها نصًا يعيش من خلال النسخ، الاختراقات، والأرشفة الرقمية، أكثر من كونها نصًا «يتلاشى» بعد القراءة الأولى كما ادّعى مطوروها.

بين النقد النصي التقليدي والتحليل الرقمي

تكمن قيمة الكتاب في ربطه بين تقاليد النقد النصي الكلاسيكي (المخطوط، الطباعة، المحو) ودراسات البرمجيات والأرشفة الرقمية. يُظهر كيرشنباوم أن الأفكار القديمة مثل «التقادم» و«التحريف» و«الهشاشة» تجد ترجمتها الجديدة في دراسة الوسائط الرقمية: الأقراص، الملفات، والبرامج. من هنا يفتح الكتاب آفاقًا جديدة لسياسات الحفظ الرقمي، مقترحًا استخدام تقنيات الطب الشرعي الرقمي لحماية التراث الرقمي من النسيان أو التلف.

أثر الكتاب وتلقيه

لاقى الكتاب استقبالًا واسعًا في الدوائر الأكاديمية، وحاز عدة جوائز معتبرة، ما رسّخ مكانته بوصفه نصًا مؤسسًا، يقارب في أثره ما فعله ليف مانوفيتش في لغة الوسائط الجديدة. وقد أصبح مرجعًا في مناهج الدراسات الأدبية والرقمية، لأنه يضع بين أيدي الباحثين منهجًا قابلاً للتطبيق: قراءة النصوص الرقمية من خلال طبقاتها المادية.

حدود المشروع

ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من حدود. فهو يركز على نصوص وألعاب من الحقبة المبكرة للأدب الإلكتروني، أي تلك التي أصبحت اليوم أشبه بمواد متحفية، ولا يغطي بعمق المنصات الشبكية المعاصرة مثل وسائل التواصل والتطبيقات السحابية. كما أن لغته التقنية قد تبدو كثيفة لغير المتخصصين، وإن كان يوازنها بأمثلة عملية واضحة. هذه الملاحظات لا تنقص من قيمته، بل تؤكد طبيعته التأسيسية التي مهدت الطريق لدراسات لاحقة.

يمثل كتاب Mechanisms علامة فارقة في دراسة الأدب الإلكتروني، لأنه يكشف أن النصوص الرقمية ليست عائمة في الفضاء الافتراضي، بل لها أجساد وأعمار وآثار مادية قابلة للتعقب. إنه دعوة لإعادة التفكير في الكتابة الرقمية، لا بوصفها صورًا زائلة، بل كأشياء تملك ذاكرة و«ماضيًا» مطبوعًا في وسائطها. ولهذا يظل الكتاب مرجعًا لا غنى عنه للباحثين في الإنسانيات الرقمية، الأرشيف، والأدب الجديد.

المراجع

Matthew G. Kirschenbaum, Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination, MIT Press, 2008.

Lev Manovich, The Language of New Media, MIT Press, 2001.

Michael Joyce, afternoon, a story, Eastgate Systems, 1987.

William Gibson, Agrippa (A Book of the Dead), 1992.

0 التعليقات: