منذ أسابيع، تعيش الجزائر على إيقاع جدلٍ صاخب حول إقالة رئيس الحكومة المكلّف وتعيين بديله بالنيابة. ورغم أنّ الأمر يبدو، في ظاهره، مجرد تناوب إداري عادي، إلا أنّ ما يحدث في الكواليس يكشف أزمةً أعمق بكثير: أزمة سلطة تبحث عن واجهات بلا سلطة، وعن رجال يجلسون على مقاعد وزارية دون أن يجرؤوا على استخدامها.
الحكاية لا تتعلق باسمٍ بعينه. فمنذ سنوات، ظلّت الوجوه تتغيّر بسرعة، والسيناريو يتكرّر بنفس الإخراج: رئيس وزراء لم يطلب المنصب أصلاً، يظلّ محاصراً بقرارات فوقية، ثم يغادر بعد أن يُنهك أو يُستنزف، ليُستبدل بآخر لا يقل عنه هشاشةً أو تردداً. إنه مسلسل من "الوزراء بالنيابة"، وزراء مؤقتين لا يريدون أن يكونوا وزراء، ومع ذلك يُجبرون على ارتداء البذلة الرسمية إلى أن يُرمى بهم في مزبلة التاريخ.
أبرز مثال على هذا
النمط هو "العرباوي"، ذلك الدبلوماسي الذي جيء به إلى رئاسة الحكومة رغم
أنه لم يكن يسعى إليها. إن حادثة "حرّاش"، حيث بدا عاجزاً عن التصرّف كقائد
في لحظة مأساوية، لم تكن سوى القشّة التي قصمت ظهره. لكن الحقيقة أنه كان قد طلب الرحيل
قبلها بأشهر، بعدما شعر بالإهانة حين جُرّد من صلاحياته لصالح وزير آخر استأثر بالقرار
المالي والاقتصادي.
لكن في جزائر تبون،
الاستقالة ليست خياراً. لا أحد يستطيع أن يعلن رفضه أو يترك منصبه بكرامة؛ فكل من يجرؤ
على ذلك يتحوّل مباشرة إلى عدوّ شخصي للرئيس. والعرباوي كان يعرف أنّ مصيره سيكون السجن
أو التصفية السياسية لو أعلن تمرده، فاكتفى بالانتظار حتى تُفتح له باب الخروج
"من فوق".
المفارقة أنّ ما يعتبر
اليوم "جريمة ولاء" كان في الماضي يُدار ببرودة سياسية. يكفي أن نتذكر كيف
غادر أحمد أويحيى منصب الوزير الأول قبل أكثر من عقد، حين اكتشف أن بوتفليقة لم يعد
يريده إلى جانبه. أويحيى لم يتشبّث بالكرسي، بل انسحب بهدوء، محافظاً على بعض من هيبته
السياسية، ليعود لاحقاً إلى مواقع القرار. أما في جزائر تبون، فالوزراء يعيشون أسرى
الخوف، لا يملكون لا شجاعة الاستقالة ولا حتى رفاهية الرفض.
القاسم المشترك بين
جميع رؤساء الحكومات المعيّنين في عهد تبون أنهم ليسوا سياسيين. مجرد تكنوقراط، موظفون
سامون، خُيّروا لأنهم بلا طموح سياسي، وبلا رؤية وطنية. لم يكن لأيٍّ منهم مشروع لإدارة
الدولة، أو حتى رغبة في أن يكون رجل المرحلة. بعضهم جاؤوا من وزارات المالية أو الخارجية،
وبعضهم من مقاعد الإدارة، ليجدوا أنفسهم فجأة في موقع "الوزير الأول"، ثم
يغادرونه سريعاً كأنهم لم يمروا.
المنطق واضح: تبون
لا يريد شريكاً في الحكم. إنه رئيسٌ يسعى لأن يكون "الشمس الوحيدة"، محاطاً
بمجرة من الموظفين الصامتين، لا ينازعونه مجداً ولا يطرحون أسئلة. هكذا تحوّلت الحكومة
إلى مجرد سكرتارية مطوّلة، ورئاسة الوزراء إلى مكتب فارغ إلا من الأوامر.
غير أن خطورة هذه اللعبة
لا تقف عند حدود الأشخاص. فالجزائر، مثل أي دولة معقّدة، تحتاج إلى ثنائية متوازنة:
رئيس بسلطة، ورئيس حكومة برؤية. أشبه بمدرّب كرة قدم يحتاج إلى قائدٍ في الملعب. إذا
غاب أحدهما، انهارت الخطة. لكن في الجزائر الحالية، الرئيس يرفض وجود "قائد ميداني"،
ويصرّ على أن يبقى وحده في الواجهة، فيما يُختزل رئيس الوزراء في صورة موظفٍ لا حول
له ولا قوة.
النتيجة واضحة: بلدٌ
مأزوم يتخبط في السياسات المرتجلة، ونظامٌ يفضّل الولاء على الكفاءة، ورجال دولة يُستخدمون
ثم يُرمى بهم عند أول بادرة اعتراض أو أول لحظة ضعف. كل ذلك يفاقم الانسداد السياسي
ويغذّي الإحباط الشعبي.
قد يتغيّر الاسم غداً
أو بعد غد، لكن المسرحية ستبقى كما هي: وزير أول لا يريد أن يكون وزيراً أول، وشعبٌ
يعرف جيداً أن الحقيقة أبعد من البلاغات الرسمية. إنها أزمة حكم تُدار بالعابرين لا
بالقادة، وبالمؤقتين لا بالفاعلين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق