لم يكن مشهد المرشحة الجمهورية من أصول كولومبية فالنتينا غوميز، وهي تحرق نسخة من القرآن الكريم في فناء منزلها بولاية تكساس، مجرد واقعة فردية أو استعراض انتخابي عابر، بل يعكس ظاهرة أعمق تتعلق بصعود الخطاب الشعبوي اليميني في الولايات المتحدة الأمريكية . هذا التيار السياسي، الذي غذّاه دونالد ترامب منذ حملته الأولى عام 2016، يقوم على استثارة المخاوف والهويات الضيقة، وتقديم “الآخر” – سواء كان مهاجراً، أو مسلماً، أو حتى مؤسسة فيدرالية – كعدو داخلي ينبغي محاربته.
خطاب غوميز لا يمكن
عزله عن المناخ السياسي الذي أفرزته الشعبوية الأمريكية في السنوات الأخيرة. فالشعارات
التي رفعتها – "لا مكان للإسلام في تكساس" – هي امتداد لسياسات ترامب في
حظر السفر على مواطني دول مسلمة، وتصوير الإسلام في الخطاب الانتخابي كتهديد وجودي
للقيم الأمريكية. ما فعلته غوميز هو محاولة محلية لاستثمار هذا الخطاب، عبر مشهد صادم
يشبه إلى حد كبير تكتيكات “التسويق بالفضيحة” التي يتبناها بعض المرشحين الشعبويين
حول العالم.
رغم الضجة الإعلامية
التي أحدثها الفيديو، لم تحقق المرشحة أي اختراق انتخابي، بل جاءت في المرتبة السادسة
داخل حزبها. هذه النتيجة تكشف أن المجتمع الأمريكي – خصوصاً في تكساس التي تضم جالية
مسلمة وعربية مؤثرة – لا يتجاوب بسهولة مع خطاب الكراهية الفج. الناخب الأمريكي قد
يتعاطف مع شعارات الأمن والهوية، لكنه في الوقت نفسه يرفض تحويل الانتخابات إلى مسرح
لحرق الكتب المقدسة أو التحريض المباشر ضد مكوّن ديني يعيش بينه.
القانون الأمريكي،
رغم مرونته في حماية حرية الرأي، يضع حدوداً صارمة عند التحريض على الكراهية. ولعل
لجوء غوميز إلى تصوير الحادثة في فناء منزلها لا في مكان عام، يعكس إدراكها أن حرق
القرآن في الفضاء العمومي قد يعرّضها للمساءلة القانونية بجريمة "خطاب الكراهية".
هنا تتضح مفارقة الشعبوية اليمينية: فهي تستثمر في خطاب يتجاوز قيم الدستور، لكنها
تضطر في النهاية إلى التلاعب بالحدود القانونية للبقاء ضمن اللعبة السياسية.
حادثة غوميز تتقاطع
مع صورة أوسع للإسلام في أمريكا. فعلى الرغم من الهجمات الإعلامية المتكررة، أظهر المسلمون
حضوراً إيجابياً في لحظات الأزمات، مثل فتح المساجد لإيواء المنكوبين خلال فيضانات
هيوستن. هذه الأفعال الإنسانية صنعت صورة مغايرة عن المسلمين، لا تنسجم مع الصورة النمطية
التي يحاول الشعبويون ترسيخها. بل إن استمرار وجود نواب مسلمين في الكونغرس – بعضهم
يفوز في دوائر انتخابية صعبة – يبرهن أن المجتمع الأمريكي لا يتبنى، في مجمله، خطاب
الإقصاء الديني.
القضية هنا ليست فالنتينا
غوميز كشخص، بل ما تمثله كعرض جانبي في مشهد سياسي أمريكي مأزوم. فالحادثة تكشف كيف
تسعى الشعبوية اليمينية إلى توسيع نفوذها عبر الاستثمار في الخوف من الإسلام، تماماً
كما استثمرت سابقاً في الخوف من المهاجرين المكسيكيين أو من الصين. لكن في المقابل،
تكشف أيضاً محدودية هذه الاستراتيجية: إذ لا يمكن بناء مشروع سياسي مستدام على التحريض
فقط، خصوصاً في بلد تتسع فسيفساؤه الدينية والعرقية باستمرار.
ما فعلته غوميز يعكس
لحظة من لحظات الانحطاط الأخلاقي للشعبوية الأمريكية، حيث يتحول الدين إلى أداة انتخابية،
والرموز المقدسة إلى مواد دعائية. لكن فشلها الانتخابي يعكس أيضاً أن المجتمع الأمريكي
– رغم الانقسامات – يظل أوسع من أن يُختزل في شعارات الكراهية. وهنا يبرز سؤال أعمق:
إلى أي مدى يمكن للشعبوية اليمينية أن تستمر في إعادة تدوير خطاب الخوف والكراهية في
بلد يقوم دستوره على الحرية والمساواة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق